عَتَبَات الشّعر:
عَتَبَات النّثر:
المواجهة بين السّرد الشّعري والسّرد النّثري تنحصر في مستويين, المستوى الأول : استعمال اللغة بالصيغ البسيطة والسهلة الممتنعة كوسيلةٍ لإيصال أفكار الكاتب إلى القارئ دون التنازل عن المستوى الفني الرفيع.
والمستوى الثاني: استخدام اللغة بالصيغ المقعدة كفايةٍ مقصودة لذاتها جمالياً وفنياً دون أن يعني هذا غياب الحوامل الفكرية والإنسانية عن المضمون الفكري.
ويجب الانتباه هنا إلى أنه من المتعذر الفصل الدقيق بين المستويين المذكورين آنفاً , لأنه قد ارتبط مفهوم الأدبية دائماً بمفهوم الشعرية , فمصطلح الأدبية يدلّ على ما يميز نصاً بذاته كي يكون نصاً فنياً مقصوداً لذاته بقيمه الجمالية ومختلفاً عن النصوص العادية.
أما مصطلح الشعرية فيدلُّ على النصِّ الملتزم بالموسيقا والإيقاع , سواء كان موزوناً أو غير موزونٍ والشعرية في النثر هي جنوح النثر نحو أسلوب الشعر في الكتابة.
ومن أهم ملامح وسمات السرد لدى منيرة الصباغ جنوحها المتعمد نحو الشعرية بمفهوم الانحياز إلى الشعر , واستخدام تقنياته مما يتعارض تماماً مع مفهوم التقنية الروائية في سياقها الاجتماعي , مما أدى إلى إهمال الاشتغال على أدبية النثر مع التجويد الجمالي الواضح.
فالرواية لا تشترط كتابة السرد بأسلوب الشعر وهذا ما تّم في هذه الرواية, حيث تمَّ شعرنة النثر بجمالياتٍ لغويةٍ فارهة , جاءت مُفتعلةً أحياناً في السرد النثري الذي يُفترض أنه ينشغل بالتعبير عن الحالات الانسانية أكثر من انشغاله بالحالات الجمالية تبدأ مؤلفة الرواية” هسيس الأرواح” الكاتبة منيرة الصباغ بعض صفحاتها بسطورٍ قصيرة متفاوتة الطول بحيث يستطيع القول أنه مقطوعة شعرية مستوحاة من بعض أفكار الرواية , فتقوم مقام التمهيد النثري مما أدى إلى انفتاح الرواية على أكثر من لونٍ تجنيسي , ولا تكتفي الكاتبة بالتوطئات الشعرية للنص النثري وإذا انتقلنا من الافتتاحيات الشعرية التي تتصدر أحداث الرواية , نجد أن الأسلوب الشعري يمتدُّ إلى داخل النص أيضاً , ويتواصل بالزخم ذاته وإن طرأ عليه بعض التعديل لمقتضيات الحبكة الفنية في النص وتصوير الصراع بين أبطال الرواية.
إذاً الدخول في صلب السرد النثري في هذه الرواية بأسلوبٍ جمالي مقصود بذاته , جاء مثقلاً بانتخاب المفردات ذات اللمعان الألماسي , والجمال اللؤلؤي, والمنحوتة من مقلع الشعر أكثر منها مجموعةً من رياض النثر, انسحب على مساحات السرد في الرواية دون استثناء, لذلك جاء الشكل متقدماً على المضمون مما أضعف جماليات الطروحات الانسانية وقوّى الخطاب الشعري الذي جاء في غاية الروعة والجمال فكان ترفاً أثقل كاهل البنية الفنية.
جاء مضمون الرواية محملاً بعناقيد نبيلة , ومواقف سامية كإدانة المؤلفة الشديدة للمجموعات الإرهابية المسلحة والدعوة إلى مكافحة الفساد, وتمجيد الشهادة والشهداء ورفض التطرف الديني وفضح الجمعيات التي تمارس عبادة الشيطان.
معظم شخصيات الرواية ” شغف, أمير, ميرا, لمى , زين , لاميتا , معتز” مُركَّبة , تعيش صراعاً درامياً , فمعظمها خيّر بفطرته وبعضها شرير بالاقتداء وهي فاجعةً مُروِّعة أو نال كلُّ فردٍ منهم نصيبه , إن خيراً فخير وإن شر فشّراً مع ملاحظة أن أسلوب هذه الشخصيات في التعبير عن مواقفها , جاء حاملاً تعبيرياً لموقف الكاتبة أكثر منه تعبيراً عن ذاتها باللغة التي تمثلها , تتساوى في ذلك شبه الأمي مع حامل الشهادات العليا فقد أنطقتهم المؤلفة بالشعر الرفيع المستوى دون الأخذ بعين الاعتبار التفاوت الثقافي بينها.
في كلِّ فصل ٍمن الرواية أقيمت خيمة صوفية يفوح منها عطر الورع والإيمان والتُّقى , مع ذكر بعض أعلام الفكر الصوفي “الشيرازي”, الروحي, ابن عربي, الحلاج, مع ذكر لمحةٍ موجزة عن حياة كلِّ منهم, مما أعطى الرواية صفةً تعليمية من جهةٍ وجنوحاً حادَّاً نحو الوعظ والإرشاد مع يقين راسخ لدى المؤلفة بأن المحبة ثمرة الروح وأن الإنسان تحفة الله جلَّ جلاله, أما الرضوخ للشهوات والنجاسة وجموح العاطفة , هو في الحقيقة عبادة أصنام لا أكثر , وأن هذه الحياة ليست سوى بيدرِ أحزانٍ, تُدرَس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطي ثمرتها الحلوة أو المرَّة.
وأخيراً لا بدَّ من القول إن هذه الرواية الهامة مشغولة بأسلوب مال نحو الشعر وجمالياته الخاصة فقارب الإفراط في ذلك من خلالِ إهمال ٍ جزئي لقواعد الكتابة النثرية بانحيازه الكامل للشعر حتى أصبحت اللغة الشعرية المطلب الأساسي على حساب قواعد بناء الرواية وتقنياتها من خلال شعرنة السرد على حساب الفن الروائي , وإذا كان التوصيل هدف النثر فإنَّ التشويش على عملية التوصيل هدف الشعر.