
في أمسية من أمسيات كانون الثاني الباردة بلندن عدت إلى منزلي في الضاحية الغربية بالقرب من مطار هيثرو الشاهر متعباً، وبعد قضاء يوم طويل من العمل المضني في التعامل مع تربية النشء الذي هو أشبه ما يكون بالمعدن الذي يغلي في المراجل تائقا إلى الوصول لدرجة الثبات على قناعات مداخل الحياة ومواكبة هذا الزمن المتقلب.
قعدت قبالة جهاز التلفاز فاختطف بصري منظر طفل فلسطيني يحمل حجرا يلاحق جندياً إسرائيلياً، والجندي يركض أمامه وهو يحمل سلاحاً نارياً. المشهد كان مألوفاً لدي في مرات سابقة لهذه اللحظات بيد أن وقفة تامل استدعتني هذه المرة وكأنها تناديني بصوت خافت: إن وراء الأكمة ما وراءها.
عمدت إلى ذاكرة الأيام لعلي أجد خيطا يعين تفكيري على إخراج بعض الرموز الخافية.. تناثرت عناصر الإرهاق والنصب بل قل واللغوب بعد الصلاة وتناول العشاء المبكر متبوعا بكوب من الشاي ، بدأت تعتور الذاكرة قصة الحجر مع بني إسرائيل ، لقد وجدت الفراعنة على بني إسرائل وجداً شديداً بعد جلاء الهكسوس وسامتهم سوء العذاب لانهم كانوا يساندون الهكسوس ويعاونوهم على بناء دولتهم , ولم يدخر فرعون وجنوده جهداً في إنزال صنوف العذاب وأنماطه وألوانه على بني إسرائيل ، فساقوهم كالأنعام إلى بناء القلاع والسدود والقصور فمات منهم من مات وأعيق منهم من أعيق تحت الحجارة المتساقطة التي أذاقهم العمل تحت أحجامها و أوزارها الأمرين .
ترسبت تجربة الحجارة في ذاكرة القوم وجرت في شرايين حياتهم وهي تؤدي دوراً رائدا في رسم صور أيامهم وكتابة سيرهم عبر القرون تحت وطأة حياة الذل والانكسار ومدن الفراعنة ترتفع على أكتافهم في صور الحجارة إلى مواقع العنان.
نجا موسى عليه السلام من القتل خلال سنة قتل الأبناء واستحياء النساء، وكان في موعد مع الحجر عندما أزاح الصخرة وسقى للفتاتين، وفي الطريق إلى دار شعيب عليه السلام حينما دعته أخلاق النبوة إلى أن يطلب من بنت شعيب التي كانت دالته على موقع منازلهم أن ترجع لتأخذ مكان وصف الطريق من خلفه صيانة لها من بصره، وصيانة لبصره من معصية ربه، فكانت ترمي وهي من خلفه الحجارة في اتجاه المضارب راسمة له بذلك خارطة الطريق.
وفي رحلة العودة مع أهله آنس من جانب الطور نارا لتصل له حلقات الحجر المتعانقة مع موقف آخر يضطلع بتبرئة النبي الكريم عندما اتهمه القوم بالأدرة وهي نقيصة تلحق بكمال الرجولة ؛ نزل عليه السلام من أجل الاستحمام وترك ثيابه على حجر قرب الشاطىء وعاد بعد ذلك ليرتديها فإذا بالحجر يتحرك هاربا بالثياب بونا كان قمينا بتبرئة الرجل و في هذا يقول تعالى :(( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبراه الله مما قالو وكان عند الله وجيها)) الأحزاب-69- ولاننسى الصخرة التي نسي موسى وفتاه عندها الحوت وكانت مكانا لمكين كانا يبحثان عنه. في رحلة الخلاص شبه القرآن طرفي البحر بعد العصا بفرقتي الجبل. وعلى بر الأمان شاهد القوم أناسا يعبدون أصناما من الحجارة، فتاقوا إلى تلك العبادة. وتحضرني هنا الإجابة المفحمة التي أرسلها سيدنا عمر بن الخطاب لليهودي الذي قال له حول اختيار الخليفة الأول للمسلمين: لقد اختلفتم قبل أن يجف ماء نبيكم، قال عمر: لقد سألتم نبيكم أن يجعل لكم أصناما قبل أن تجف أقدامكم. كانت الألواح من الحجارة، ومشارب القوم نبعت منها، والجبل ارتفع فوقهم كأنه ظلة، وداؤد عليه السلام أردى جالوت قتيلا بحجر من مقلاعه، ورددت معه الجبال مأوبة طربا، ومادلهم على موت سليمان إلا دابة الأرض تأكل منسأته. وفي عهد عيسى عليه السلام تأتي طائفة من اليهود كما ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح الثامن لتقول له : هذه امراة زانية أوصانا موسى برجمها ..فكانت إجابة عيسى عليه السلام: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ، فانفض من كان حاضرا من حوله .حجر و حجر ..ذلك كان حجر بني إسرائيل ، أما حجرنا نحن المسلمين فمختلف جدا ، لقد انهمر على الفيل و أصحابه فجعلهم كعصف مأكول ليحمي قبلتنا ، وتحدث حديث الصدق مع حبيبنا المصطفى مبشرا بالنبوة ، فقال صلى الله عليه و سلم :((وإني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي بالنبوة قبل النبوة)) ،ووفرالحجر له صلى الله عليه وسلم سوانح الهدوء و السكينة للتحنث في حراء، وضم في باطنه الصاحبين في ثور ، ونمت مع أريج الرسالة الصحبة(( أحد جبل يحبنا و نحبه)).نلتقي في ساحاته حجيجا في عرفات ، ونطوف حوله حجرا ، و نقبله حجرا ، و نسعى بين حجرين ،ونلتقطه حجرا ، و نرمي به حجرا ، فيالها من مودة و حسن معشر تربي بيننا أواصر الحب وروابط المودة، وضروب النقاء و الصفاء ، ووعد الصدق يوم يدلنا على مخابىء القوم.