الرئيسيةبارعات العالم العربيمقالاتمنظمة همسة سماء

التقي بكم مع الجزء الرابع من سلسلتي حنين إلى المستقبل العنوان : مدنٌ لم تُخلق بعد !! خيانة الحاضر أم ولادة لأمل جديد؟

بقلم الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية

كنا نغفو على خرائط قديمة ونستيقظ على مدن لم تُبْنَ بعد.

نُشير إليها في الهواء، نرسم شوارعها بالإصبع، ونضع لها أسماءً لا يعرفها التاريخ. كنا نراها في ارتعاش الضوء بين جفنين متعبين، أو في تلك اللحظة التي تسبق النوم، حيث تتداخل الحقيقة بالاحتمال.

كأن المستقبل يلوّح لنا من الضفة الأخرى، كغريبٍ يعرف وجوهنا جيدًا لكنه لم يزرنا بعد.

كنا نحِنّ إلى تلك المدن كما يَحنّ المسافر إلى وطنٍ لم يولد فيه. مدنٌ لا تشبه ما نعرف، ولا تُقلّد ما فات، بل تتنفّس من رؤوسنا — تتغذى على أحلامنا وأخطاءنا وتخيلاتنا الهاربة من الواقع.

هل سكنتَ يومًا في بيتٍ لم يُبنَ بعد؟
هل زرت شارعًا لا وجود له، لكنه يزورك كل ليلة في المنام؟
هل انتظرت شخصًا لم يولد بعد، لكنك تعرف تفاصيل صوته وحديثه ورائحة حضوره؟

هكذا كنا نعيش — في ظِلّ الممكن، وفي أزقة المُتخيَّل.
نخطئ حين نظن أن الحنين هو ارتداد إلى الوراء؛
الحنين الحقيقي هو توقٌ لما لم نره بعد…
هو توق الإنسان الدائم إلى كمالٍ لم يتحقق، وعدالة لم تُكتب، ومعجزة لم تنزل، وحبٍّ أنقى من اللغة.

في تلك المدن التي لم تُخلق بعد،
لا يُقاس العمر بالسنين بل بالأمل.
ولا تُقاس المدن بمساحتها، بل بقدرتها على منحك ذاتك.

ولعلنا نحن أنفسنا
كائنات لم تكتمل بعد،
كأننا أيضًا لم نُخلق بعد

خيانة الحاضر أم ولادة لأمل جديد؟

كثيرًا ما نتّهم أنفسنا — أو يتّهمنا غيرنا — بأننا نهرب من الحاضر.
أننا نُدير له ظهرنا، نُهمس للمستقبل بلهفة، نكتب عن احتمالات لم تحدث، ونعلّق أرواحنا على شرفات لم تُبْنَ بعد.
لكن من قال إن الحلم خيانة؟
من قال إن التطلّع إلى الأمام هو جريمة في حق اللحظة؟

في كل مرة نحاول فيها النجاة من ضيق الواقع، يُقال لنا إننا نعيش في الوهم.
لكن ماذا لو كان الوهم هو هذا الواقع؟
ماذا لو كان الحاضر هو الخيانة الحقيقية؟
خيانة الإنسان لذاته، حين يتصالح مع القبح، ويصادق الاعتياد، ويرضى بأن يكون أقلّ مما يمكن أن يكون؟

نحن لا نهرب من الحاضر، بل نُنقذه.
نفتح له نوافذ جديدة ليُطلّ منها على نسخته الأفضل.
نُرغمه أن يتأمل ما يمكن أن يكون، لا ما هو كائن فقط.

كل فكرة كتبناها عن المستقبل،
كل صورة رسمناها عن عالمٍ أجمل،
كل مشهد تخيّلناه عن إنسانٍ أرقى،
كلّها لم تكن طعنات في ظهر الحاضر، بل كانت محاولات لإنعاشه.

نعم، نحن أبناء الحنين.
لكننا لا نحِنّ إلى الوراء، بل إلى أمام لم يولد بعد.
نبكي من أجل احتمالات لم تتحقق، ونتألّم من أجل جمال لم يرَ النور،
كما لو كان الغد ابنًا تائهًا نحاول أن نرشده إلى البيت.

هل هو أمل؟
نعم.
لكن ليس الأمل الذي يُقال عن ضعفٍ أو تهرّب.
بل أملٌ نحتناه بأظافرنا في جدران المستحيل.
أملٌ صار طريقتنا في الحياة،
وصار لغتنا، وصار صوتنا حين يصمت كل شيء.

ليس في الحنين إلى المستقبل خيانة،
بل فيه وعد… بأن الحاضر لا يكفينا

ولعلّ الجزء الأخير من الحكاية، لن يُكتب بالحبر فقط، بل بما تبقّى فينا من قدرة على الحلم… أو على الانفجار.
ترقّبوا: الجزء الخامس – حين يعود الغد إلى الوراء

إغلاق