مقالات

العناصر الموسيقية في القرآن الكريم بقلم: أ.د. عبد الحفيظ الندوي

لا شكّ أنّ القرآن الكريم ليس شعرًا ولا غناءً، وإنّما هو كلام الله المعجز، نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، متفرّدٍ في نظمه وأسلوبه، متميّزٍ عن جميع ضروب الأدب العربي من نثرٍ وشعر. غير أنّ المتأمّل في تراكيبه وأساليبه يلحظ أنّه يشتمل على عناصر جماليّة صوتيّة وإيقاعيّة تقترب في أثرها من العناصر الموسيقيّة، من غير أن تندرج في حقيقتها. وتُعدّ هذه الخصائص من وجوه الإعجاز البياني التي تحدّى الله بها الإنس والجن.

١- الإيقاع الصوتي

من أبرز ما يلفت في أسلوب القرآن أنّ آياته تأتي في كثير من المواضع قصيرةً متتابعة، تُحدث وقعًا إيقاعيًا على السمع يثير الانتباه ويحرّك الوجدان.
قال تعالى:
﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: ١-٣].
فالتتابع السريع للآيات القصيرة يخلق إيقاعًا متميّزًا يقرع السمع قرعًا متلاحقًا.

٢- الفاصلة القرآنيّة (السجع)

يكثر في القرآن ختمُ الآيات بفواصل متشابهة في الأصوات، فتمنح النصّ وحدةً موسيقيّة متجانسة.
قال تعالى في سورة الرحمن:
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣]،
وقد تكرّرت هذه الفاصلة إحدى وثلاثين مرّة، فجعلت السورة أشبه بقصيدة ذات لازمة موسيقيّة متردّدة.

٣- التكرار الإيقاعي

من الأساليب القرآنية توظيف التكرار لتوكيد المعنى وتعميق الإحساس بالإيقاع. ففي سورة القمر مثلًا تتكرّر الآية:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠]،
وقد جاءت كأنّها قرارٌ موسيقي يتردّد في أثناء السورة.

٤- النغم والتجويد

يتلى القرآن على وجهٍ مخصوص مضبوط بأحكام التجويد، تحدّد مواقع المدود والغنّات والوقف والابتداء، فتُكسب التلاوة أبعادًا صوتيّة ذات جرسٍ موسيقي. ولذا قال النبي ﷺ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» (رواه أحمد).
وقد نشأت من هذا الأصل أنماط متعدّدة من المقامات الصوتيّة في التلاوة، كالحجاز والبيات والسيكاه، تزيد النصّ جلالًا ورهبة.

٥- التناسق الصوتي (جرس الألفاظ)

اختيار الحروف في القرآن دقيقٌ إلى حدٍّ بديع، بحيث يتناغم اللفظ مع المعنى. ففي سورة الكوثر:
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: ١-٣].
يتردّد فيها وقع الأصوات الرقيقة (الكاف، الراء) فتمنح السورة لحنًا عذبًا يوافق قصرها ونعومتها.
وعلى النقيض من ذلك نلحظ في سورة الحاقّة غلبة الأصوات القويّة (القاف، الطاء) لتتناسب مع مشاهد العذاب والوعيد:
﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقّة: ١-٣].

والخلاصة إنّ هذه العناصر الصوتيّة والإيقاعيّة في القرآن الكريم ليست من قبيل الفنّ الموسيقي البشري، بل هي سمات إعجازيّة جماليّة جعلت القرآن يتفرّد في تأثيره على القلوب والأسماع، حتى ليخشع لسماعه العربي وغير العربي على السواء.
فسبحان من جعل كتابه معجزةً خالدةً، لا تنقضي عجائبه، ولا يَخلَق من كثرة الردّ.

إغلاق