الرئيسيةمقالات

ذاكرۃُ النكسۃ – حرب1967م / عزت أبو الرب

الجزء الثاني:

النصرُ قرارٌ والهزيمةُ اختيار:
حين غبْنا عن الأنظارِ بينَ أشجار الزيتون والأشجارِ البرية، وهدأ القصفُ، جلسنا نستريحُ في ظلِّ زيتونةٍ. وفَجْأةً عاد القصفُ بقوةٍ وكثافةٍ، فنهضنا فزعينَ مذعورينَ نركضُ وقد نسينا أختَنا الصغيرة.
قطعنا عدةَ أمتارٍ في اتجاهاتٍ مبعثرة، وإلى أن توَحَدنا أدركنا أننا نسينا أختنا الصغيرة لميعة، فرجعت أختي الكبيرة فتحية وأتت بها. وعلى غير طريقٍ واضحٍ مخططٍ له، سرنا جنوباً، انحدرنا إلى وادٍ عميقٍ عريض إلى الشرق من قرية جلقموس وغرب قرية المغَيِّر، فالتقينا بعمتي فاطمة وزوجها عمي عوض ومعهم ابنتهم كلثوم وأولادهم. كانت حركة الطيران الإسرائيلي نشطةً، فنختبئ إلى أطراف الوادي و بين أشجار “الذِّرْو/السّريس”، تارةً ونسير أخرى. ولما تلاشى صوتها ظهرعلينا أربعة جنود من الجيش الأردني بسلاحهم الشخصي؛ فأمرونا بالإبتعاد عنهم، فاستجبنا، وسألناهم الماء، فلم يكن معهم إلا ما يسد ظمأ الصِّغار. حثثنا السير جنوباً، ووصلنا رابا مساء، فأرشدنا الناس إلى مغارة شرق البلد، لجأ إليها الفارون من بلادٍ شتى. ومن قريتنا جلبون التقينا هناك بزوجة محمد إسماعيل وأولادها الصغار. وكان أيضاً النوري أبو صبري وزوجته وأولاده مع المختبئين، ولا أذكر مكان إقامتهم عند اشتعال الحرب .
علم بوجودنا المختار أحمد محمود أبو محمود زوج قريبتنا حليمة الصادق، فجاء وأخذنا إلى بيته، نقضي النهار عندهم، ونبيت الليل في المغارة. لم يقتصر موقفهم الإنساني والأخلاقي علينا فحسب، بل كانوا مع جارهم محمد طاهر” أبي إياد” زوج قريبتنا ختام أحمد محمد، يُزَوِدون الغرباء بالبندورة والخيار والزيتون والجبنة واللبنة والبيض، وقد قامت ختام “أم إياد” بخبز عجناتٍ متتالية حتى أعدت شوالا”خط أحمر” من الخبز وأرسلت به للناس في المغارة.
لم يكن الناس في جلبون أحسن حالاً منا، ففرت غالبيةُ الأسر بأولادها غرباً وجنوباً، ولم يبق إلا القليل منها داخل البلد. انتشر الفارون في الشعاب والجبال المحيطة بالقرية: في خلة اللوزة، وراس الواد، وخلايل الطوابسي, وام الريش، وأم الفول. وصل بعضهم إلى دير أبوضعيف، وجلقموس، وقباطية وآخرون بلغوا شرق الأردن. تخلل هذا النزوح و الهروب ضياعٌ وتمزيق أسر، فمنهم من أضاع أسرته و سار باتجاه مختلف كما حصل مع دار محمود راغب حيث ذهبت الزوجة والأولاد إلى راس الواد، وذهب الأب إلى دير أبوضعيف ظناً منه أنهم هناك، وفي الطريق عند الشقيف راى الجيش الإسرائيلي قادماً من الدير، فبادره بصليتين أصابت قدمه وأسفل الحوض، فسقط ينزف، وزحف حتى ابتعد عن الشارع، وسقط خلف السنسلة، ومرت الدبابات بعيدة عن رأسه بسنتمترات، فوصلت خلايل الطوابسي، وعادت من حيث أتت. بقي ملقياً على الشارع ، فمرَ به عبد العربي قادما من الدير، فأخبر أهله، فذهب ابنه مصطفي وعبد الله ناجي وعبد الرزاق كايد وأتَوْا به على فرس. ظل ثلاثة أيام ينزف إلى أن نثقِل إلى مشفى جنين الحكومي، ومكث فيه خمسةً وثلاثين يوما، وقد أراد الأطباء بتر رجله فمنعهم صادق شلبي الذي جاء صدفة إلى هناك.
هرب بعضهم لينجو فكاد أن يهلك، فيقول عزات عرف عواد ابن المختار وقد عاصر النكبة وعمره “18” عاما، والنكسة وعمره(47) عاما، لم يبق في المنزل إلا أبي وأنا وزوجتي وابنتي البكر شامية، وخرجت أمي وإخوتي وأولادي بداية إلى عمارة زكريا، وكان معهم قائد نقطة الحرس الوطني الذي فارقهم باتجاه جلقموس، ومن ثمّ أرسلناهم إلى قباطية، فأخذهم فؤاد الحج إبراهيم مع أولاده وبعض أقاربه بالتراكتور إلى الأردن، وفي أريحا قصفهم الطيران الإسرائيلي، وأصيب فقط فؤاد بجروح طفيفة.
أصبحت مؤشرات انطلاق الحرب تعلو، وبدأت الاستعدادات: فأقيم معسكر تدريب للشباب في الجفتلك جنوب شرق جنين بإشراف عبد اللطيف صادق أبوالرب قبل 3-4 شهور من نشوب الحرب، و لحق بالمعسكرات الجنود النظاميون وأسرهم قبل أيامٍ قليلة جداً من بدء الحرب. هذا وتم تزويد القرية بالسلاح عبر المختار، فاستلم الرجال البنادق. ويروي علي الخطيب أن أباه محمد عبدالرحيم أصرَ على أخذ رشاش وليس بندقية، ومثله عواد أحمد أسعد. ولما اشتعلت الحرب استحكم “أبو علي”برشاشه في الرابِيَّة الكائنة قرب قبور النصارى المطلة على المفقعة وأراد أن يطلق النار على حصادة إسرائيلية، فجاءه المختار عارف عواد، ونافع حسن، وخالد محمود، وأقنعوه بأن لا يفعل حفاظاً على البلد.
وأما في اليوم أو اليوميْن الذي سبق اندلاع الحرب، أُخذ الشباب المدرب لساحات المعركة المرتقبة في القدس، ونشروهم في شعفاط وجبل المكبر، ومنهم: يوسف حسن يوسف، وفؤاد أسعد، ومحمد حسين أحمد، وربحي أحمد عبد الكريم، وحسن عبد العزيز، وأحمد فايز حسن. وأسر بعضهم وسُلِّموا إلى الأردن، وعاد الآخرون مشيا من القدس إلى جلبون.
لم تنته بعدُ مسيرة الفرار، وبعد مبيت ليلتين في رابا، أخذت أمي قرار العودة إلى جلبون وليس إلى شرق الأردن، كما دعا البعض وفعل. في صبيحة اليوم الثالث، وبعد أن تناولنا الفطور بدأت مسيرة العودة من رابا إلى جلبون شمالاً، مرورا بقرية المغيِّر، وقبل أن نصل قمة جبل الشاعر من أرض جلبون التقينا ثانيةً بعمي عوض ، ومعاً تابعنا المسير. وعندما ظهرت لنا بيوت قريتنا جلبون رفعنا الراية البيضاء، فتجمهر الناس عند “الفقير/الشيخ غُشُم”، ولم يصبرمن كان له مفقود حتى نصل إليه، بل سار نحونا كما فعلت الحاجة حمدة الصبح تسأل عن ابنتها الصغيرة خيرية التي هربت معهم إلى دير أبوضعيف، -وضاعت إثر موجة القصف الإسرائيلي على القرية صباحاً، فالتقت بآمنة عبد العربي وسارتا إلى جلقموس، وعادتا لاحقاً-، فبادرها مازحاً ابن عمتي محمد عوض وكان في السادسة عشر من عمره قائلاً: “الله يِعَوِّض” فصاحت: ماتت؟ فتدخّل عمي عوض وهدّأ من روعها وأكد لها أننا لم نرها.
وصلنا بيتنا وكان على بعد أمتار من تجمع الناس، فاستقبلنا جارنا أبوالعبد”أبوطافش” وزوجته سعدى وكانوا قد قاموا بحراسة بيتنا وأملاكنا ورعاية مواشينا، وحتى جمع بيض دجاجاتنا. نمنا بضعة أيام في “خشتهم” الصغيرة، حيث كان ينام الصغار والنساء في الداخل، فيما كان أبو العبد إلى جانب الأكبر سناً من الذكور ينامون في الساحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق