اقلام حرة
وللمعلم دوره .. بقلم علي الشافعي
كنت اقف يوما امام طلبة الصف الاول الثانوي العلمي في احدى مدارس مملكتنا الحبيبة , واذكر انني كنت احلل واياهم رائعة المتنبي ( واحر قلباه ) , التي يعتب فيها على سيف الدولة , ويفتخر بنفسه , ثم يودعه الى كافور الاخشيدي في مصر , في قصة مشهورة . حتى اذا ما وصلت الى البيت:
انام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصموا
اعدت ترديده متمثلا ساهما ومبتسما . لاحظ الطلاب الحركة فوقف احدهم وقال : يا استاذ نريد ان نعرف سبب سرحانك وابتسامتك , ولا نظن الا ان وراءها حكاية . عند ذلك جلست على الكرسي , وشبكت يدي على الطاولة دونما انتباه , تماما مثلما كنا نفعل ايام الدراسة , قلت سأروي لكم الحكاية لعل فيها بعض الفائدة , صلوا على النبي:
كنت تماما في مثل صفكم , وفلّاح ابن فلّاح من زمرة الفلاحين وفصيلة دمهم , حرثت بذرت وزرعت ونكشت ورويت وقطفت وحصدت , واميز لبن الشات من لبن الماعز بمجرد النظر . اقدس الارض و اعشق العمل فيها , لذلك وطدت نفسي تقريبا على دراسة الهندسة الزراعية . في بداية العام الدراسي دخل علينا شاب في مقتبل العمر , لا يزيد عمره عن اعمارنا اكثر من اربع او خمس سنوات , وبعض زملائنا ممن لهم سوابق في الرسوب في مثل سنه , بادرنا بالقول : اصدقائي السلام عليكم , انا الاستاذ فلان معلمكم الجديد لمبحث اللغة العربية , خريج الجامعة الاردنية , سنتعاون معا على فهم ودراسة المبحث لهذا العام .
وضع كل منا اصبعه في اذنه يفركها وفغر فاه وازددنا دهشة على دهشة , فنحن نعرف معلم اللغة العربية او التربية الاسلامية : رجل ازهري كبير السن يلبس جبة وقفطانا وعلى راسه عمامة , وبيده عصا بطول أطولنا يضعها على الطاولة , ولا يعترض عليها احد . ثم هذه اللهجة التي ما اعتدنا عليها (سنتعاون) ؟ هذا كلام جديد على مسامعنا. المهم شرح لنا خطة سيرنا في المادة وبعض الملاحظات حولها , وفي نهاية الحصة قال : انا يا شباب (وهذه كلمة جديدة ايضا على مسمعنا ) من خارج المحافظة , ويصعب على الوصول صباحا للمدرسة لذلك اريد ان اسكن في البلدة , اريد منكم ان تبحثوا لي عن سكن مناسب بسعر مناسب . اشتدت فرحتنا بهذا التكليف , واقول لكم اننا احببناه .
كان في جوارنا بيت مكون من غرفة بمنافعها , سألنا اصحابها فوافقوا على تأجيرها بمبلغ خمسة دنانير , وعندما علموا انها للمعلم قالوا : يدفع ما اراد , واذا لم يدفع سامحنا , في الصباح كنت اول من زف البشرى للأستاذ الذي قدم لي الشكر , واتفقنا على الذهاب لروية المسكن بعد الحصص وقد كان , اعجب المسكنُ الاستاذَ وتمت الموافقة , عاد المعلم قبيل المغرب بسيارة انزلت عفشه وانطلقت , وتساعدنا مع شباب الحي على نقل الاثاث وترتيبه بأسرع وقت , الاثاث عبارة عن سرير مفرد بمرتبته وغطائه , وطاولة وكرسي وبعض ادوات المطبخ . وحقيبة ملابس وكتب . حيث قمنا بإلصاق بعض الجرائد على الجدار , وثبتنا بعض المسامير ليعلق عليها ملابسه , ثم تركناه ليرتاح . بعد فترة عدت برجل تتقدم واخرى تتأخر رهبة وهيبة , احمل صينية عليها صحن من البيض المقلي بزيت الزيتون الحر , وبعض قطع من الجبن وصحن لبن رائب بيتي الصنع , وصحن زيتون ورغيف خبز طابون , وضعتها امامه قائلا تفضل يا استاذ العشاء , فانت اليوم مشغول ولا تعرف الدكاكين , غدا تتعرف عليها وانطلقت .
اخذ يلفت انتباهنا الاسلوب السهل الرقيق الذي كان يستخدمه لتوصيل المعلومة وترغيبنا بالمادة , وشيئا فشيئا احببناها بسبب حبنا له . كان يعجبنا منه اذا سأله احدنا اي سؤال مهما كان سهلا لا يجيب مباشرة , وانما يرفع راسه الى السقف متمثلا ومكررا السؤال , وبعدها يجيب بكل هدوء وثقة , خاصة اذا تعلق السؤال بالنحو او الصرف , كان يقول : النحو يا اصحاب له علاقة بمنطق الفلسفة , لا بد قبل الاجابة من تحديد بداية الجملة ونهايتها , فهذا له الجزء الاكبر من الاعراب , لأنك اذا حددت البداية عرفت نوع الجملة هل هي اسمية ام فعلية , وعرفت اركانها , فان كانت اسمية حذفت من اجابتك طابور المفاعيل , وسهل عليك الحل . وكان يقول : ونحن في الجامعة لم نكن نهتم بحفظ المعلومة , بمقدار اهتمامنا بطريقة وكيفية استخراجها من المصدر بأسرع وقت , اي مهارة امتلاك مفاتيح استخراجها , لان المعتمد على الذاكرة خسران . كان يسترسل في شرح النصوص الابية , لدرجة ان احد طلبتنا يوما قال له : والله يا استاذ لا اظن ان الشاعر خطر بباله هذه المعاني كلها , فانت تستخرج من المعاني والصور البلاغية ما اكاد اجزم ان الشاعر ما خطرت بباله . يومها رد عليه الاستاذ بكل هدوء بهذا البيت الذي وقفنا عنده :
انام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصموا
الشاعر يا اصحابي عليه القول ونحن علينا التحليل والتعليل والتأويل .
واستطردت : كان كلما تأخرت عن زيارته ارسل في طلبي , فنتحاور ونتناقش حول المادة , وراي الطلاب في اسلوبه والعقبات التي تعترض بعضهم , وشيئا فشيئا انكسر حاجز الخوف والهيبة , وصرنا نتحدث بأريحية , وبدأت احب المادة واجتهد فيها لابيض وجهي امام الاستاذ , كان يعجبه القائي للشعر ويقول القاؤك منبري خطابي , فاجأني بوما بتكليف غير مجرى دراستي الجامعية , كيف ؟ سأقول لكم فاسمعوا وعوا:
دخلت عليه ذلك اليوم فقال : اذهب واحضر لي كتاب النصوص الادبية , كنا قد توقفنا عند قصيدة ابي القاسم الشابي “اذا الشعب يوما اراد الحياة ” قال لي : اسمع سأقرأها عليك الان , وستعيدها خلفي حتى تتقنها , وساترك لك المجال غدا لفهم معانيها وتستوعب شرحها , وتسألني عما يصعب عليك فهمه , وستقف بعد غد اما الطلبة وتلقي الدرس كاملا , مع الاستعداد التام لأي سؤال . قلت بارتباك : انا ؟ اقف امام اثنين واربعين طالبا والقي حصة كاملة , قال ليس هذا فقط , بل ومعهم على الاقل خمسة من المعلمين وربما مدير المدرسة . قلت له : يا يا يا استاذ المعلومة يسهل حفظها , لكن الصعب في الامر الوقوف هذا الموقف . فقال : اسمع سيمر عليك بيت في القصيدة تَمَثّلْه جيدا:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر اذهب الى البيت وضع وسادة وقف عليها , وابدأ بإلقاء القصدة بصوت عال , ستقع اول مرة وثانية وثالثة , وعندما تنهي قراءة القصيدة دون وقوع , اعلم انك ستقدم الحصة نموذجية بدون عثرات . طبتم وطابت اوقاتكم .