الرئيسيةمقالاتمنظمة همسة سماء
مفهوم الأخلاق عند أفلاطون ورفضه للشعراء في جمهوريته
من ملف أبحاثي ومحاضراتي لطلاب الدراسات العليا موضوع الأخلاق وعلاقتها بالعلم والشعر " الجزء الرابع " والأخير من هذا البحث
اهتم الفلاسفة عبر العصور بموضوع الأخلاق، فالأخلاق هي واحدة من فروع الفلسفة وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد الأخلاقية المتعلقة بسلوك الفرد والجماعة؛ فهي تهتم بالسلوك الصالح للفرد وبالمجتمع على حد سواء، كما أن مصدر الأخلاق هو مدى وعي الفرد للتغلب على الهوى والغرائز، وبالتالي تساعد الأخلاق الفرد على الارتقاء بنفسه، فلها تأثير قوي في الطريقة التي يتصرف بها الفرد، كما أنه لا يمكن لمجتمع أن يقوم دون معايير وأسس أخلاقية توجه الفرد نحو ما هو صائب وتبعده عن ما هو خاطئ.
يرى أفلاطون أن الأخلاق هي الابتعاد عن الشهوات والغرائز حتى يحقق الفرد السعادة والعدالة والفضيلة وغيرها، وقد وضع الشروط من أجل الوصول إلى المقاييس الأخلاقية التي تحقق السعادة لدى الإنسان، كما أنه يرى أن النفس أهم من الجسد تبعًا لأستاذه سقراط، فالجسد يقوم بحمل النفس وتوجيهها وقيادتها إلى السلوك غير الأخلاقي، ويحافظ على مفهوم أن الأخلاق قائمة على الفضيلة، وأن السعادة والرفاهية الهدف الأسمى للفكر والسلوك الأخلاقيين.
الفضائل التي تتضمنها الأخلاق عند أفلاطون
تتضمن ما يأتي:
الحكمة: هي من أولى الفضائل والتي تعني أن فضيلة العقل لا تكمل إلا بالحق.
العفة: وهي التي تتغلب على القوة الشهوانية. الشجاعة: وهي قوة التحكم بالنفس عند الغضب. فيرى أفلاطون أنه إذا تحققت لدى الفرد هذه الفضائل الثلاثة سيحقق التناسب والنظام، وهي الفضيلة الرابعة التي تحدث عنها، فيجب تحقيق التوازن الصحيح بين هذه الفضائل لتحقيق العدل، فالعدل والحكمة هما الفضيلتان الرئيسيتان؛ فإذا كانت النفس حكيمة ستعمل جميع الفضائل بانسجام واتساق لدى الفرد، كما أن العدالة تحقق للنفس السعادة والراحة وهي حالة عقلية باطنية أخلاقية تنعكس على المظهر الخارجي للنفس وتظهر مدى صحتها، فهي تقوم على السيطرة على الجزء الشهواني وعلى رغبات الجسد وهذا هو الوضع السليم الذي ينبغي أن يكون عليه الفرد، وقدم ذلك أفلاطون كرد على دعوى السفسطائيين الذين دعوا الفرد إلى مطاوعة جانب اللذة استجابة لنداء الطبيعة لذلك، وكان الرد أن الطبيعية لا تدعو الإنسان إلى دمار نفسه.
وقال أفلاطون إن خفة اللذة وضعف الانفعال والألم هي صفة الحياة الفاضلة بينما الحياة الرذيلة هي التي يغلب عليها الألم الذي يدوم، ولم يقتصر مفهوم الأخلاق عند أفلاطون على الفرد فقط بل على المجتمع ككل، فالفرد كائن اجتماعي يعيش ضمن نظام سياسي محدد، فقام بربط الأخلاق بالسياسة، فالفرد الحكيم في السياسة يقوم بضبط شهواته باعتدال ولا يحكم على الآخرين بهدف إصلاح حاله وحال المجتمع، وكان يهدف أفلاطون إلى جعل قانون الأخلاق عاما لكل عصر وزمان من خلال الإقامة على أسمى جانب لدى الفرد وهو العقل، فقام أفلاطون بالفصل بين المحسوسات والمثل؛ فالمثل هي مصدر الوجود والكمال.
الأخلاق وثنائية النفس والجسم من المثير للاهتمام القول إن أفلاطون اعتمد في وضع فلسفته المتعلقة بالأخلاق على نظرية ثنائية النفس والبدن، فالنفس لها حياة سابقة في عالم المثل، ولسبب ما عوقبت هذه النفس فحلت في الجسد؛ فبالتالي أصبح الجسد حاجزًا بين الفضائل والنفس، فكان يقول إن البدن سجن النفس، فالفضائل والأخلاق يتم توليدها عن طريق ما تم اكتنازه في ذات الإنسان ويتم ذلك عن طريق الحوار ولهذا كانت أغلب كتب أفلاطون بأسلوب الحوار.
فحتى يعيش الإنسان حياة فاضلة يجب أن يتسامى على مطالب الجسد والشهوة حتى يضمن استمرار حياته وبالتالي يزكي نفسه ويطهرها عن طريق الحكمة والمعرفة ومحاربة الجهل من أجل العودة إلى النظام السائد بعالم المثل وعودة الروح إلى طبيعتها الأصلية وبالتالي تتحرر النفس من سجنها الجسد وتعيش حياة فاضلة بعد الموت، فالنفس في حالة صراع دائمة لكي تتخلص من سجنها، فالموت طموح عند الحكيم الفيلسوف فالسمة الأساسية هي العمل بجد لفصل النفس عن الجسد، لذلك فإن الفلاسفة أقل رهبة عند الموت مقارنة بغيرهم، كما أنه يرى أن المعرفة تختلف عن الفضيلة، فالمعرفة يمكن نقلها عن طريق التعليم من عقل إلى آخر استنادًا إلى البراهين والحجج والأدلة، بينما الفضيلة تحتاج إلى أن يضبط الفرد جسده من أجل تطهير النفس، فالعلم والمعرفة وحدها غير كافية ليصبح الشخص فاضلاً، فقد يكون الإنسان على علم بالشيء الخاطئ ويقوم به لذلك يجب أن تكون المعرفة والأخلاق لدى الإنسان حتى يكون فاضلًا.
أفلاطون وجمهوريته «الفاضلة» بلا شعراء!
كان أفلاطون يرى أن هناك خصومة قديمة بين الفلسفة والشعر
في «جمهوريته » يرى أفلاطون أن هناك وخصومة قديمة بين الشعر والفلسفة، وفي بنائه لـ«الجمهورية» تحدث أفلاطون عن الشعراء وحديثهم الغامض. حين سأل سيموندس عن العدالة ولم يكن جوابه واضحا وصفه أفلاطون بأنه يتحدث كما يتحدث الشعراء. في الكتاب الثاني من «الجمهورية» يبدأ أفلاطون في رسم جمهوريته الفاضلة، وهي بالمناسبة جمهورية غير مثالية، بمعنى أنه لا يتطلب بناؤها إدراج أي طبيعة مثالية للبشر بقدر ما تقوم على هندسة اجتماعية واقعية تتعامل مع البشر تبعا لخصائصهم الطبيعية. من منظور عام لا يوجد مانع ميتافيزيقي أو وجودي لتحقيق تلك المدينة.
في كتابه يدخل الشعر كجزء من التربية الضرورية للأطفال. الشعر هنا يقدم المعاني الفاضلة الضرورية للجمهورية في المستقبل. لذا فالشعر هنا يتم الإشراف عليه من المربين والساسة للتأكد من عدم تمريره لقيم ومعان تفسد تربية الأطفال. ينتقد أفلاطون الشعر المتداول في أيامه وما يحتويه من معان فاسدة، ويطالبه برميه خارج أسوار الجمهورية الفاضلة. يراقب أفلاطون الشعر هنا وفقا لمعايير أخلاقية وإبستمولوجية. أخلاقيا الشعر ذو المعاني الفاسدة يجب استبعاده، وإبستمولوجيا الشعر الذي يفسد التفكير بالعروض الغامضة والمشوّشة
في الكتاب الثالث يستمر الشعراء في الظهور كخصوم لمشروع الجمهورية العادلة. الجمهورية يفترض أن تبنى على العقلانية، لكن الشعراء يمنعون الناس من إدراك ذلك بتشويش أذهانهم بقصصهم ومعانيهم غير الصحيحة. على سبيل المثال الصور التي يقدمها الشعراء للآلهة الإغريقية متضاربة وغير معقولة، مما يجعل الناس يفقدون الثقة في وجود أي مشاريع عقلانية ومنتظمة. هذا لب اعتراضات أفلاطون على مضمون الشعر، ولكن ليس هذا كل شيء، فأفلاطون لديه اعتراضات على أسلوب الشعر ذاته ولذا يميز بين ثلاثة أنواع: المحاكاة الخالصة كما في التراجيديا والكوميديا، السرد الخالص كما في التسابيح الدينية، وثالثا النوع الذي يجمع المحاكاة بالسرد كما في الملاحم. بالنسبة للنوع الأول فيمكن تمريره في التعليم بشرط أن تكون المحاكاة لشخصيات فاضلة وعاقلة. بينما يطال المنع النوعين الآخرين رغم ما فيهما من الترفيه بسبب التشويش الذي يحدثونه بين الحقيقة والخيال.
في الكتاب الرابع يبدو الشعراء كأعداء ومنافسين سياسيين باعتبار أنهم يعززون الاستبداد ويعاملون المستبدين كالآلهة. الشعر هنا هو أداة لتخدير الناس وتشويش وعيهم، وبالتالي فهو خصم لمشروع الجمهورية السياسي. رغم إعجاب وتقدير أفلاطون لهومر شاعر اليونان العظيم فإن المنع يطال أعماله أيضا. الشاعر هنا في أحسن أحواله يبعد عن الحقيقة ثلاث خطوات.
الشاعر يتحدث عن الموجودات التي هي في الأخير صور للحقيقة. الشاعر هنا مثل الرسّام الذي ينتج نسخة أبعد عن الأصل. الصورة في ذهن أفلاطون كالتالي: حقيقة الأشياء في المثل، وتحققات الأشياء ماديا هي صورة لتلك المثل. الشاعر كما الرسام، يتواصل مع الصور لينتج صورة جديدة أبعد بثلاث خطوات عن الأصل.
أسئلة كثيرة تثيرها مواقف أفلاطون من الشعر والشعراء. من هذه التساؤلات: هل هذا الموقف مرتبط بطبيعة الشعر الإغريقي في عصر أفلاطون وبالتالي تكون مواقف أفلاطون موجهة لهذا النوع بالذات، أم أن هذا الموقف من جوهر الشعر وطبيعته التي لا يسمى شعرا إلا بها؟ تساؤل مهم آخر وهو: هل كل النقد الأفلاطوني للشعر مرتبط بمشروع الجمهورية الفاضلة وبنائها الفلسفي كما يجادل غادامير على سبيل المثال، أم أن المجادلة الأفلاطونية ميتافيزيقية ويمكن تأسيسها خارج مشروع الدولة الجديدة؟
إن @ صورة الجمهورية في ذهن أفلاطون المشابهة لصورة المدرسة التقليدية كما نفهمها اليوم. أي المكان الذي يعمل كآلة ضخمة لإنتاج كائنات بشرية بمواصفات محددة.
أفلاطون زعم أنه عرف الحقيقة وأبصرها بعد الخروج من كهف الأوهام والتعلق بظلال الأشياء. مهمته الآن هي العودة للكهف لإنقاذ أسرى العادة والتقليد. الجمهورية بكل ما فيها من تنظيمات وقوانين صارمة هي آلة نقل هؤلاء الناس من الظلمات إلى النور. مشروع أفلاطون بدأ من هذه المقدمة، وكان من الطبيعي أن ينتهي إلى نتائج حجب ورقابة على ساكني الجمهورية، كما تمارس المدرسة الحجب والرقابة على الأطفال في المدارس.
سكان جمهورية أفلاطون يشبهون أطفال المدارس. فالمدارس تراقب وتصفي كل المعارف قبل أن تصل للأطفال، وكذلك كانت مهمة جمهورية أفلاطون. الشعراء خطر، والناس عاجزون عن التعامل معه، لذا كان الحل هو الحجب والطرد والإبعاد للشعر والشعراء، وقبل ذلك لإمكانية تعامل الناس بأنفسهم مع الشعر.
المصادر المعتمدة : جمهورية أفلاطون