مطبخ همسة التراثي

المفتول: طبخة النَّبي سليمان!

تجد المفتول مساحةً ليس أوسع منها لأكلةٍ أخرى في التراث الشعبي الفلسطيني، رغم أن التنازع في أصل هذه الأكلة ومنبتها بين مشرقنا ومغربنا العربي لا حدود له، وكذا الاختلاف في اسمها وما يطلق عليها، إلا أنها تحمل رغم ذلك ارتباطًا خاصًا ووثيقًا بالموروث الشعبي الفلسطيني.

المفتول من الأكلات القديمة في فلسطين وبلاد الشام؛ تنازع المشرق والمغرب العربي على منبتها، مُكونها الأساسي القمح

وتختلف أسماء هذه الأكلة الشعبية؛ وتتنوع وتتمايز من بلدٍ إلى آخر في بعض ما يُضاف إليها، وإن كان الاسم الجامع لها في المشرق العربي “مفتول”، و”كسكسي” في المغرب العربي. ووردت لها تسمياتٌ عدة في المشرق العربي منها بحبثون، وكِسا بر، ومرمعون، وبسبسون، وكيسكسون، ودحيرجه، والمغربية.

والمفتول، من فتل يفتل فهو مَفتول، وهو بَرمُ الشيء ولَفّه. والكسكسي في العربية من “كَسْكَسَ الطحين” أي فتله وجعله قطعًا وحباتٍ دقيقة. وفتلت الكسكس أي دعكته وبرمته.

اقرأ/ي أيضًا: الشتاء في لهجتنا العاميّة

أمّا البحبثون؛ فمن البحبثة في العاميّة، ومثله بحبث اللبن إذا فرفط وصار قطعًا صغيره، ولأن المفتول يكون قطعًا صغيرةً يقال عنه بحبثون. وكِسا بر، من كَسي البر(القمح) بالدقيق أثناء فتله، وكأن الدقيق كساءٌ للقمح المجروش.

ولا ينتمي المفتول لموسمٍ دون آخر، وإن غلب عليه بأنه مأكول الشتاء ومطبوخ أشد أيامه بردًا، حتى قالوا عن أيام الثلج: “اليوم يوم مفتول”، حيث يلزم الإنسان بيته بسبب البرد الشديد في الكوانين، فيُقال “في كانون كِن في بيتك وكثّر من حَطبك وزيتك”. وفي هذا الجو يكون هُناك مُتسعٌ من الوقت لفتل القمح المجروش وطبخ البحبثون.

ويقترن المفتول بالشتاء لأنّه دسمٌ وحامي ويوفر لآكله الدفء والشَّبع، وهو ما يُحتاج إليه في الأيام التي توصف بأن “عشاها ما بعشي ودفاها ما بدفي”، لطول الليل وشدّة برده.

وجرت العادة أن يُطبخ المفتول على دجاج بلدي “عتاقي”. وعلى رأيهم فإن “الدّهن في العتاقي”، أو لحمة عجل، ما يتطلب نارًا حامية كي يَنضج، الأمر الذي يكون مُتوفرًا في الشتاء في أغلب البيوت، حيث موقدة النار لا تَنطفئ.

والمفتول لا يُؤكل إلا عائليًا، فـ”البركة في الأيادي”، ولا يُطبخ إلا عند اشتهائه، وَيغلبُ طبخه في أول الشتاء، وفي أيام الزيتون، وفي “وَنسّة الأموات”، وفي شهر رمضان، ويوم الجمعة، وبعض قرى فلسطين كانت تقدمه كوجبة الغداء في العرس.

يُعتبر القمح مكون المفتول الأساسي، حَيثُ تجرش النّسوة القمح حتى يتحوّل إلى سميد/بُرغل وَيوضَع في وعاءٍ نُحاسي وَيُرَش عليه الطّحين وقليلٌ من الماء، وَيُفتل باليد ويُحرك حتى يتشكل ككرات صغيرة. والمفتول الناعم والصغير جدًا يُرش عليه سُكر ويعطى للأطفال كي يأكلوه في ساعته.

ويُطبخ المفتول في طناجر خاصة على البُخار المُتصاعد من مرق اللحمة وخليطٍ من الخضروات والبهارات. وتتكون طُنجرة المفتول من قطعتين، تعلو إحداهما الأخرى. تكون القطعة العليا على شكل مصفاة مُخرمة من الأسفل، بحيث يتسرب البُخار المُتصاعد من الطنجرة السُفلى لينضج المفتول. وَيُغلق الشق الفاصل بين الطُنجرتين بقطعة من العجين ليمنع تسرب البخار الحار، وتسمى هذه العملية “التهبيل”.

اقرأ/ي أيضًا: الزبيب الفلسطيني.. ما تبقّى لكم من حلوى

وقبل استخدام المصفاة المعدنية المُسماة “كور المفتول”، كان يُستخدم طبق قشٍ يُسمى منسفة مفتول أو قبعة مفتول، تسمح فتحاتها الضيقة بمرور البخار لينضج المفتول.

وبعد نضجها يضاف إليها الشوربة والمرق المطبوخ باللحم والخضروات، والبعض يُضيف إليها رُب البندورة. وهناك من يَصبُّ عليه السمن البلدي. ومن طريف قولهم في ذلك:

لاقـي يا فـلانـه لاقـي .. واذبحـي اللي بتـقـاقـي

واطبخي عليها مفتـول .. وخلي السمن هَالطول

ولا يغيب المفتول كأكلةٍ شعبيةٍ عن المرويات الشفهية في تراثنا الفلسطيني، فنجده حاضرًا بقوةٍ تعكس أهميته، ومن ذلك قولهم في العتابا:

يصيح محمد العابد يا مفتول .. وقلبي ما هِوي غيرك يَا مفتول

بتهبيلة عجوز وقور مفتول .. وباطـيـتي ما يِجِي غيري حدا

وفي الدلعونا يرد المفتول:

ما أحلى أكل اللحمة مع المفتول .. من ديّة حُبي زريف الطول

مهـما احـكـوا لي عـنـك مَقـبـول .. يا إم لعـيـون تـنعـش للنّوما

وحين تُقدم النسوة المفتول كغداء للضيوف تقول:

يا ميت هلا وسهلا .. ومرحبا يا ضيوف

الغـــدا مـفـتـول .. واللـحـم  خـــاروف

ويغني الأطفال فرحين أثناء طبخ المفتول:

هَبّل يا كور المفتول .. هَبّـل وإلا  لاهـبـّلت

هَبّل يا كور المفتول .. وإحنا حولك بنجول

shareيسود اعتقادٌ أن طبخ المفتول مستحبٌ يوم الجمعة، وأن أول طبخة مفتول قُدمت إلى النبي سليمان وأذهبت عنه الأرق

وهناك اعتقاداتٌ شعبيةٌ كثيرةٌ مرتبطة بالمفتول، منها أنه يُستحب طبخه في يوم الجمعة، وأنه في شهر رمضان المبارك يَتعينُ طبخه ثلاث مرات مُتباعدة، وأن المفتول من الأكلات التي يُؤجَرُ عليها المرء وينالُ ثوبها الميت، ولذا تُطبخ في (وَنسة الأموات). ويحرصون على دفن اللحم في المفتول، وحجتهم في ذلك الآية القرآنيّة: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم).

وأجمل الاعتقادات وأكثرها غرابةً ما يُقال عن أصلها وكيف صُنعت أول مَرّة. فقد زعموا أن أصلها من الجن في عَهد النّبي سليمان، حيث اشتكى من الأرق والسهر وعدم القُدرة على النوم، فصنع طبيبه من الجن المفتول له، فلما أكل منها ذهب عنه الأرق، ومن يومها والمفتول يُطبخ ويُعتبر من أهم الأكلات الغذائية.

واليوم وفي ظلِّ عولمة المطبخ والانفتاح على الآخر، وغزو الوجبات السريعة للمطبخ الشرقي، تبرز الحاجة للتمسك بالموروث الغذائي والمناداة بالحفاظ على هوية مطبخنا الفلسطيني وعدم إبقاء أكلاتنا الشعبية حبيسة الأرشيفات والذكريات. وتشتد الحاجة إذا علمنا أنّ المشروع الصهيوني يُسارع إلى سرقة تراثنا الغذائي مُدّعيًا بأن له مطبخٌ متكاملٌ وتراثٌ غذائيٌ في هذه البلاد منذ القدم.

مقالات ذات صلة

إغلاق