الرئيسية
طحين الأسرى وابتساماتهم
تتسع الزنزانة الواحدة لعشرة أسرى، ولكنّها لا تتسع -من وجهة نظر السّجّان- لعشرة أسرى يضحكون بملء فمٍ واحد، وذلك لأن الضحكات إذا ما انطلقت متحدّة، من الزنزانة، ستتسع جدرانها، وقد تندلق بعض الابتسامات في الساحة، حيث يجول الحراس ليلًا، متجهمين، وباحثين لهم عن دور من وراء الأبواب، لتصير تكلفة ذلك الدور علينا إجراءً عقابيًا، أو التهديد بإجراء، وهو ما كُنّا نحاول تفاديه بسبب النبرة المُستفزّة التي يتحدث بها السجّان من الساحة، حيث يفصل بيننا باب أزرق ثقيل.. كفيل بحمايته من عشرة أسرى غاضبين، استكثر عليهم فرحة متأخرة.
أخبرني أسير قديم مرّة بأن الكلمات التي يستخدمها الأسرى، لا تتجاوز (عُشر) ما يتم استخدامه في الحياة الطبيعية، ومن يدرك خطورة هذه النسبة الضئيلة، يصيبه القلق
ليس في السجن ما يستدعي هذا النفس من الفرحة، إلّا إذا جمعتك الصدفة الحسنة لتعيش في زنزانة واحدة مع “وسام مليطات”، عندها ستتلقى مع رفاقك الكثير من التنبيهات، وسيقف السّجّان مرارًا وراء الباب، وسيحدق كثيرًا بمن بقي على شفتيه آثار لابتسامة مشاغبة، ولكن دون أن يجد في وسام بالذات، أي معالم للشبهة، لأن وسام هو الوحيد الذي لم يضحك.
من النادر أن يكون غير صانع للضحكات، حين يتمشّى في الزنزانة ويزعجه السكون، يجلس على بُرشه (سرير الأسرى)، ويبدأ حبك تفاصيل مخططه، مُنتظرًا اللحظة المناسبة لتنشيط المكان، مثلًا، يلقي نكتة طازجة سمعها من أسير جديد وخبّأها لليلة حزينة، وحين يرى أحدهم سارحًا، يباغته بجملة لا بُدّ أن تحمل في خاتمتها انزياحًا ما:
– ليش قاعد هادي.. قوم دخّن سيجارة تنفعك!
يلعب وسام في تنقّلاته سواء بين الغرف، أو بين أبراش الغرفة الواحدة دور “الدينمو”، فهو يعلم أن معركته الشخصية، تكون ضد الركود في الدرجة الأولى، لأن رتابة الحياة المكررة بين أربعة جدران، تصنع طبقة من “الكلس” تحجب الحواس عن الإدراك.
اقرأ/ي أيضًا: جاهة وكنافة في سجن نفحة!
أخبرني أسير قديم مرّة بأن الكلمات التي يستخدمها الأسرى، لا تتجاوز (عُشر) ما يتم استخدامه في الحياة الطبيعية، ومن يدرك خطورة هذه النسبة الضئيلة، يصيبه القلق، وكردِّ فعل بيولوجي يفرز جسده تلقائيًا كميّة مضاعفة من محفزات النشاط اللغوي والبدني، كوسيلة دفاع ذاتي ونفسي لمقاومة القمع، وضدّ عوامل الركود الجسماني والفقر اللغوي. فلا تكاد تمضي ساعة دون أن يمارس نشاطًا ما، رتق ثوب، إصلاح المروحة، قراءة كتاب، ممارسة الرياضة، تأليف نكتة، صنع حوار، أو اصطناعه.. الخ.
المشاهد المكررة ومحدودية الكلمات المستخدمة، تكون شديدة الأثر على الذاكرة البصرية، فينزع الأسرى القدامى لاستخدام نصف واحد من الذاكرة البصرية، وهو الجزء التخيُّليّ عبر ربط الأشياء بالمواقف، وهي الملكة القوية جدًا عند الأطفال، أكثر من ارتباطهم بالذاكرة وجزئها المكانيّ المعتمد على إعادة ربط المسمّيات بالأماكن التي زاروها، مثلما ينطبق ذلك على الشاعر عنترة الذي ذكّره لمعان أسنّة الرّماح في أتون المعركة ببارق ثغر الحبيبة.
في السجن، يربط معظم الأسرى الأشياء التي يحكون عنها ويتذكرونها بالمواقف، فـ”الطحين” مرتبط بالفراق والعودة، أكثر مما هو مرتبط بالطعام
بينما كان أحد الأسرى القدامى يمارس “دفاعه الذاتي” عبر إعداد وجبة شهية من الطعام، طلب من أحدهم أن يساعده بإحضار حفنة “طحين” من غرفة مجاورة، وقبل أن يبارح الأسير الجديد باب الزنزانة الأزرق مغادرًا، قال له الأسير القديم وكأنه تذكّر موقفًا خطيرًا: جيب الطحين وارجع بسرعة.. موش تغيب ربع قرن!
كان صارمًا في وصيّته، حتى أن الشاب المستجد أخذها على محمل الجد، وعاد بعد أقل من دقيقة. فيما بعد، علمت أن “الطحين” ارتبط في ذهن الأول بموقف ما، ومن قصة لأسير شاركه رفقة الزنزانة لسنين طويلة؛ كيس الطحين الذي طلبته والدة “سامر المحروم” من ابنها في 1985 قبل أن تعلم، ودون أن تعلم، بأنَّ سامر الخارج من بيته في مدينة جنين، ذاهبٌ لمدينة القدس لتنفيذ عملية، وقد فعلها ونجح، وحُكم عليه بالمؤبد مدى الحياة، ولكن تم تحريره بعد 26 سنةً من الأسر في صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، وكان أوّل ما فعله بعد تحرّره، أن دخل على أُمِّه حاملًا كيس طحين على ظهره.
اقرأ/ي أيضًا: معارك الأمعاء الخاوية.. البداية من “عسقلان”
يرتبط ذوي هذا النوع من الذاكرة “التخيلية” بأنهم الأشدُّ تعاطفًا مع معاناة الآخرين. وفي السجن، يربط معظم الأسرى الأشياء التي يحكون عنها ويتذكرونها بالمواقف، فـ”الطحين” مرتبط بالفراق والعودة، أكثر مما هو مرتبط بالطعام.
أشياء أخرى مثل: السهل، الجبل، التراب.. لم تدُسها قدم أسير طوال مدّة سجنه، لأن الفورة (ساحة السجن) تكون مُعبّدة، وبالتالي فإن هذه الأشياء ترتبط في ذاكرة الأسير بفترة المطاردة أو إخفاء الأثر.
أيضًا صورة “المرأة” لمن هو بلا تجارب سابقة، لا تحمل الصورة المجردة للأنثى، بقدر ما تحمله من معنى للأم التي قضت مدّة الحكم وراء زجاج الزيارة، فمخيِّلته تجاه المرأة تعني أولًا المكان الذي سيخلع فيه همومه ويرتاح.
أتذكّرُ “وسام” الأسير، الذي لا يرتبط بذاكرتي بسجن النقب، بل بشّاب اعتقل في العشرين من عمره، وأمضى 13 سنة، تحفِّزه قواه الذاتية في صنع الابتسامة لمن هم حوله، وبمبادراته الشخصيّة، التي شكلت دفاعه الذاتيّ ضدّ التكلّس، ومقدرته أيضًا وبنفس القوّة على إنكار ذاته. سألته: كيف أمضيت كل هذه السنين وما زلت تحتفظ بهذه الروح الطفولية؟
قبل أن يُجيب، وجّه نظره إلى الأسير “سامر المحروم” وهو يمارس رياضة المشي في ساحة السجن (الفورة)، وقال: “إحنا ما عانينا قد سامر اللي شمّ ريحة الحرية وفلتت منه”.
سامر، كان أُفرج عنه في صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، ثُم أعيد اعتقاله بعد أربع سنوات، وتم إعادة حُكم “المؤبد” له، لهذا صار “الطحين” مُعادلًا للفراق/اللقاء، لمن هم داخل الأسوار، أو خارجها!