مقالات
مفاتيح الانتصار ومغاليق الهزيمة في حرب غزة الصورة العامة لحرب غزة وأبعادها الخفية..
محمد رضوان..

لِمن سيُحسب النصرُ في حرب غزة..؟ بدأ البعض يطرح هذا السؤال ساعات قبل الإعلان عن الهدنة أو وقف إطلاق النهار وِفق التصريحات المتتالية من واشنطن حيث تشهد لقاءات مكثفة بين ترامب ونتانياهو حول هذه الحرب، التي صارت “عبثية” من وِجهة نظر الأمريكيين وحتى الإسرائيليين.
الصورة العامة لحرب غزة كما تنقلها وسائل الإعلام العالمية، بما فيها العربية وفي مقدمتها قناة الجزيرة، تُظهر أرضَ غزة وقد احترقت وجُرفت بالكامل، وسُوِّيت بناياتُها وبيوتُها ومستشفياتها ومساجدها بالأرض وصارت أثرا بعد عين، أما سكانُها فقد فتكت بهم آلة الدمار الإسرائيلية أشد ما يكون الفتكُ، قتلا وتهجيرا وتشريدا وتجويعا، ولم يدع الجيش الإسرائيلي بتحريض من المؤسسة السياسية وتواطؤ الداعمين لها الإقليميين والدوليين جريمة من جرائم الحرب إلا واقترفتها، سواء تعلق الأمر بجرائم الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية.
عناصر هذه الصورة تترك لدى المتابعين المتفرجين، وحتى لدى بعض المهتمين والمراقبين، انطباعا يوحي بنوع من الانكسار، إن لم يكن الانهزام، لدى الجانب الفلسطيني في غزة أمام قوة إسرائيل الغاشمة التي أتت على الأخضر واليابس، مما دفع بالكثيرين منهم إلى تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية ما حصل من البداية.
في الحقيقة، هناك أبعاد أخرى غير مرئية للصورة العامة، وهذه الأبعاد إن كانت خفية عن الكثيرين منا فإن العقل الإسرائيلي الذي يحلل أطوار المعركة يدركها ويحللها ويضع الخِطط على أساسها.
معركة غزة ليست معركة بالحديد والنار فحسب؛ فقد جربت إسرائيل جميع ما ابتكرته هي وحليفتها من الأسلحة النارية على أرض غزة وفلسطين عامة، ولم تصل إلى نصر حاسم يضمن لها أمنا مُطلقا حتى في أشد حصونها العسكرية والأمنية.
مجموعة واسعة من القنابل والأسلحة المتقدمة، معظمها أمريكية الصنع، وتتنوع بين القنابل الذكية الموجهة والقنابل الخارقة للتحصينات، إضافة إلى صواريخ متطورة استخدمتها إسرائيل في حروبها على قطاع غزة دون أن تحسم الوضع العسكري لصالحها بشكل مطلق، وهو ما حيَّر المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
لا شك أنه أمام الكلفة الباهظة لجندي إسرائيلي واحد مدجج بأحدث أنواع السلاح ولوازم الحماية ومُقاتلٍ فلسطيني بِشبشبٍ بسيط ولباس هزيل وسلاح تقليدي خفيف فرقٌ شاسع، بل لا مجال بينهما للمقارنة مما يفترض أن النصر الساحق كان يجب أن يكون للأول منذ الوهلة الأولى، وهو ما راهنت عليه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ولم يتحقق بعد أكثر من عام ونصف من الصراع.
فقط ما حدث قبل يومين في الكمين الذي قُتل فيه 5 جنود إسرائيليين، وأصيب 14 آخرون في بيت حانون بشمال قطاع غزة أثار الكثير من الأسئلة في إسرائيل حول هذه الحرب، ودفعت ببعض المصادر الإسرائيلية إلى كشف جانب من الخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب غير المتكافئة.
فالأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش الإسرائيلي تشير إلى مقتل نحو 887 جنديًا منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 حتى يوليو 2025، إلا أن تصريحات رئيس الأركان الجديد، الجنرال إيال زمير، كشفت عن وجود 5.942 عائلة “ثكلى” (أي عائلات فقدت أحد أفرادها من الجنود)، ما يشير إلى أن الأعداد الحقيقية قد تكون أعلى من المعلن رسميًا.
بالنسبة للجرحى العسكريين الإسرائيليين، فقد بلغ عددهم رسميًا حوالي 5.696 جريحًا، لكن زمير أشار إلى أن أكثر من 15.000 جندي تلقوا علاجًا في مراكز التأهيل بسبب إصابات جسدية ونفسية، ما يعكس حجم الإصابات الكبير في صفوف الجيش.. إلى جانب ارتفاع حاد في معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية بين الجنود والمدنيين، وتزايد الحاجة إلى خدمات التأهيل النفسي والاجتماعي، خصوصًا بين الجنود العائدين من غزة.
كذلك أجبر أكثر من 100.000 إسرائيلي على النزوح داخليًا، فضلا عن مغادرة الآلاف منهم نحو الخارج.
وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، المذهول من هذه الخسائر قد سئم من جدوى استعمال السلاح الناري في غزة ليصرح قبل يومين أن مفاتيح الانتصار المطلق لا يمكن إلا أن تكون بالإمعان في تقطيع جسد الفلسطيني بغزة وتجويعه حتى الموت وعدم إنعاشه بمساعدات إنسانية تمنحه الأكسجين، وذلك بالمزيد من حصار مطلق، وضربات عسكرية، وتشجيع الهجرة، والاستيطان..
يظهر أنه وغيره من غُلاة الحرب وجهلة التاريخ لا يدرك أنه أمام تلك المفاتيح التي يتوهمها هناك مغاليق للهزيمة لدى الطرف الفلسطيني المقابل، وهذه المغاليق لا تعدو أن تكون إيمانا وثباتا وصمودا في الميدان وعلى الأرض حتى وإن تعلق الأمر بأشرس عدو على وجه الأرض.