مكتبة الأدب العربي و العالمي
أنيپم قصة ملبارية ترجمها أ .د. عبد الحفيظ الندوي

يحكي أديب في الأربعين من عمره عن إحدى رحلاته ذات يوم:
عندما اعتليتُ القطارَ من كاليكوت، ألفتُ أبصارَهنَّ تتّجه نحوي.
وأعني بـ”هنَّ” خمس فتيات، يبدو أن أعمارهنّ تدنو من الثامنة عشرة، فاتنات الملامح، مُشرقات الوجوه.
كان القطار هو “نيتراواتي إكسبريس” المُتّجه إلى مومباي. كنّ يحملن في أيديهن حقائب، وربّما كنّ طالبات يدرسن هناك.
كثيرًا ما ألاحظ مؤخرًا أنهنّ يُطلن النظر إليّ. لربّما وجهي يُذكّرهنّ بأحدٍ يعرفونه، أو لعلّها تلك الابتسامة التي لا تفارق محيَّاي.
غالبًا ما أتذكّر مشاهد هزلية قديمة أثناء السفر، فأضحك بيني وبين نفسي، فيظنّني الركّاب من حولي حالةً غريبة.
لكنّ الوضع هنا مختلف. هؤلاء الخمس يحدّقن إليّ مباشرةً، من الجهة المقابلة. قد يكنّ من مُحبّات الأدب والقراءة، وها هنّ الآن يحدّقن بصمت، جذلات بلقاء كاتبهنّ المفضل، وقد عقدت الدهشة ألسنتهنّ.
من بينهنّ فتاة بيضاء ممتلئة قليلاً، يعلو جبينها أثر السِّندور، ممّا يدلّ على أنها متزوّجة. واثنتان ترتديان الحجاب، وواحدة لفّت شالها حول عنقها، أما الأخيرة، النحيلة، فعقدٌ صغير يتدلّى من عنقها، يتوسّطه صليب ذهبي.
ما أجمل ذلك! مُعجباتي هؤلاء يجسّدن التعايش الديني في أبهى صوره. نظراتهنّ إليّ مشحونة بالإعجاب الصادق.
شرعتُ أتخيّل الأسئلة التي قد يطرحنها عليّ. عليّ ألّا أكون مُتكبّرًا. فهنّ فتيات جميلات، ولو أظهرتُ شيئًا من الغرور، فقد يُقابلن ذلك بالإهمال القاسي.
تحسّستُ جيبي لأتأكد من وجود قلمي. لحسن الحظ، كان هناك. قلم “لكسي” الرخيص، بالكاد تبقّى فيه حبر. ماذا لو أردن توقيعًا جماعيًا؟ لا شكّ أن الحبر سينفد. في مثل هذه اللحظات، يصبح امتلاك قلم “باركر” ضرورةً أدبية. التوقيع لمُعجبات جميلات يستحقّ قلمًا من الطراز الرفيع.
في حقيبتي بعض النسخ من كتبي، “أربعة أو خمسة مجانين” و”أربع أو ثلاث عذراوات”. آه يا كتبي العزيزة، لقد حالفكنّ الحظ، أن تجلسن متلاصقات إلى هؤلاء الحور العين.
ولأني لا أريد أن أبدو مغرورًا، نظرتُ إليهنّ وابتسمتُ. فبادلْنني ابتسامةً حيية.
ابتسامتي أربكتهنّ، فأخذن يبتسمن بخجل. لاحظتُ أنهنّ فقدن القدرة على الكلام من شدّة التأثّر.
فكّرتُ أن أذهب لأغسل وجهي وأعود مُنتعشًا، وخلال غيابي، تخيّلتُ الحوار الذي قد يدور بينهنّ عني، بأسلوب يُشبه نثر “بشيير”:
الحجابية الأولى: “يا له من وسيم، أليس كذلك؟”
الحجابية الثانية: “أعجبني طوله. أظنّ أنه يناسبني.”
صاحبة الصليب: “ألم تقولي إن زواجك شبه محسوم؟”
الحجابية الثانية: “لطالما حلمتُ بكاتبٍ يكون حبيبي.”
التي لفّت الشال: “إذًا، لا تحلمي بإكّاي. هو لي.”
المتزوّجة: “كفاكنّ. هذا الرجل مُحترم. حتى الآن لم يفتح رسالة واحدة مني في الخاص.”
الحجابية الأولى: “أريد شراء كتابيه الآن مع توقيعه.”
التي لفّت الشال: “وأنا أريد التقاط صورة سيلفي إلى جانبه.”
عدتُ إليهنّ، فقاطعتُ حوارهنّ. بدت عليهنّ علامات الحياء.
التي لفّت الشال عبست قليلاً. نظرتُ إليها بنظرة تشجّعها أن تسأل ما تشاء. بدا الخجل واضحًا عليها.
ثم قالت: “عمو…”
فوجئتُ، والتفتُّ حولي. نعم، كانت تقصدني أنا. وفي لحظة واحدة، شعرتُ أن كلّ جمالها قد تبخّر.
قالت: “عمو، هل يمكن أن تعطيها مقعدك السفلي؟ هي تخاف أن تصعد إلى الأعلى.”
كانت تشير إلى التي ترتدي الصليب، والتي خشيت من المقعد العلوي فجاءت تطلب مقعدي السفلي.
كلمة “عمو” أثّرت بي كثيرًا. لأول مرة في حياتي تناديني فتاة جميلة بهذا اللقب.
أردتُ أن أقول: “اصعدي وانسَ الموضوع. لن أتنازل عن مقعدي.”
لكن بدلاً من ذلك، ذهبتُ إلى مرآةٍ مُثبّتة قرب الحمّام لأتأكد.
الهالات السوداء تحت عينيّ واضحة. لحيتي نبتت فيها شعيرات بيضاء متفرّقة، وكذلك جوانب رأسي. لا فائدة. بالفعل، أصبحنا في أعين الفتيات أعمامًا وأخوالًا. هذا هو الواقع المُرّ.
رجعتُ وجلستُ متكوّرًا في أحد أطراف المقعد. أخرجتُ هاتفي، شغّلتُ أغنية غزل حزينة، وأغمضتُ عينيّ.
فتحتُ عينيّ لاحقًا، فرأيتُ الفتيات الخمس يتناولن من صحن فيه “أُنيّبّم” (كعك مالاباري تقليدي).
قالت صاحبة الصليب: “هل ترغب يا عمو؟”
حين رأتني أنظر إليهنّ، سألت.
أجبتها: “لا، شكرًا”، ثم أغلقتُ عينيّ من جديد، متكئًا في مكاني.
“عمّو” واحد… و”أُنيّبّم” واحد… وبعض الدلال الساذج من فتيات لم يتذوّقن بعد حروف الأدب.
بلعتُ ريقي بصمت وأنا أشمّ رائحة الكعك، وتظاهرتُ بالنوم.
وماذا عساي أن أفعل؟!
الكاتب :
– حكيم مورايور –