مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (4)

* جيل بعد جيل: لماذا يشعر الشباب اليوم بغربة أشد من آبائهم؟

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد::تتغير المجتمعات بمرور الزمن، وتتبدل القيَم والمعايير وفقاً للتحولات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية، ويشعر الكثير من الشباب اليوم بغربة أشد مقارنة بآبائهم، وكأن الفجوة بين الأجيال تتسع بمرور الوقت. فهل يعود ذلك إلى التحولات السريعة في نمط الحياة، أم إلى ضعف الروابط الاجتماعية، أم إلى عوامل أخرى أعمق؟ تعالوا نناقش المسألة من خلال النقاط التالية:

أولًا: تغيرات الواقع ومتطلبات العصر
كان آباؤنا يعيشون في بيئات أكثر استقرارًا من حيث القِيَم والعادات، حيث كانت الأسرة والمجتمع يشكلان نواة التوجيه والإرشاد، أما اليوم، فقد فرضت العولمة والتكنولوجيا واقعًا مختلفًا، حيث يتلقى الشباب تأثيرات متضاربة من ثقافات متعددة، ما جعلهم يعيشون في حالة من التشتت بين القيَم الموروثة والتوجهات العصرية، يقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُطِيعُوا أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكُمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (الأنعام: 116)، مما يعكس خطورة التأثر بالجماعات والثقافات المختلفة دون تمحيص.

ثانيًا: العزلة الرقمية والانفصال عن المجتمع
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الشباب أكثر تواصلاً افتراضيًا، لكنهم في المقابل يعانون من عزلة اجتماعية في الواقع، ووفقًا لإحصائيات حديثة، فإن 60% من الشباب يشعرون بالوحدة رغم وجودهم الدائم على الإنترنت، هذه العزلة تجعلهم يجدون صعوبة في بناء علاقات اجتماعية متينة كما كان يفعل آباؤهم في زمنٍ كان التواصل مباشرًا وأكثر دفئًا.

ثالثًا: تبدل القيم وتناقض الأولويات
بينما كان آباؤنا يرون في الاستقرار العائلي والالتزام المجتمعي حجر الأساس للحياة، فإننا نجد اليوم أن الشباب يتعرضون لضغوط تدفعهم إلى تحقيق ذواتهم الفردية قبل أي شيء آخر، وهذا يُوَلد صراعًا داخليًا يجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في عالم لا يتوافق مع تطلعاتهم الروحية والنفسية.

رابعًا: دور الإيمان في مواجهة الغربة
الشعور بالغربة ليس جديدًا، فقد قال النبي ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (رواه مسلم). لكن الإسلام يقدم حلولًا تجعل هذه الغربة مصدر قوة، من خلال العودة إلى الثوابت الإيمانية التي تمنح الشباب وضوحًا في الرؤية وسكينة في النفس.

خامسًا: الحاجة إلى مجتمع داعم وهوية متوازنة
لا يمكن إنكار أن الشباب اليوم بحاجة إلى بيئة توفر لهم الدعم النفسي والاجتماعي، حيث يشعرون بأنهم جزء من مجتمع يتفهم تطلعاتهم وتحدياتهم، فبدلاً من فرض نماذج تقليدية جامدة أو الانسياق الكامل وراء الحداثة، يجب تعزيز هوية متوازنة تجمع بين الثوابت الإسلامية والانفتاح المدروس على المستجدات، يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143)، مما يدل على أهمية التوازن كمنهج في الحياة.

* وفي الختام
فإن الشعور بالغربة لدى الشباب اليوم ليس نتيجة عامل واحد، بل هو نتاج مزيج معقد من التحولات الثقافية والتكنولوجية والاجتماعية، لكن بالرغم من ذلك، فإن التمسك بالقيم الأصيلة والسعي نحو التوازن بين الأصالة والمعاصرة يمكن أن يكون مفتاحًا لتجاوز هذا الشعور وتحقيق الانسجام مع الواقع… ولكم تحياتي وسلامي

* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( بين الانتماء والخوف: تحديات الهوية في ظل الواقع السياسي )

* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1870)
13. شعبان . 1446هـ
الأربعاء . 12.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق