مكتبة الأدب العربي و العالمي

تفاح سُكَّري:(قصةتراثية قصيرة)

بقلم : عزت ابو الرب

كانت أحلامُنا صغيرةً كسِنِيِّ عمرنا، نراقبُ أفولَ يومِ الحصادِ بصبرٍ وشَوْق، عَلَّنا نُحْظى “**بِشَرْوَةِ” من آبائنا في نهاية يومنا الشاق. و حين تنحني شمسُ حزيرانَ إلى الغرب تلقي علينا وشاحاً من النشوة، فيتبددُ الذبولُ، ويسري ماءُ الحياةِ فينا من جديد. و في طريقها للغروب تحملُ رسائلَنا للبستانِ المجاور، تهمسُ لعناقيدِ التفاحِ السُّكَّريِّ المتلألئِة بأننا نشاركُها الشحوب، نتلّهَّفُ أن نلمسَ كما عُباب الشمسِ المضرج بالأثير الأخضر عنقوداً يستفزُنا، ويغرينا إليه.
ومع شقشقة الفجرِ الأول نصحو بأمزجةٍ ونفوسٍ شتى، فنُقبِلُ على أكوام الحصيد “الحِلَلِ”، بخطىً وئيدةٍ، أثقلها سلطانُ الكرى على الجفونِ المتكسرةِ، وأوْهَنَتْها قطرات الندى المشبعة المتساقطة، ولكن الأملَ يحدونا لتحقيقِ تلك الأمانيِّ على النهوضِ، فندَفْعَ الخمولَ ونتمردَ عليه.
وعلى حصاننا الأشهبِ الأليف تبدأُ باكورةُ صباحنا، فننقلُ القشَّ من الحقلِ إلى البيدر، ونفرده بشكلٍ دائريٍ فارغ الوسط حتى تتبخرَ آخرُ قطرةٍ من ندى؛ فيسهُلَ درْسُهُ وتَطْييبُهُ على لوحٍ لا يمَلُّ الدورانَ خلفَ حصانٍ مطواعٍ يسوقه في ذلك المساء أنا، وحين تنفصلَ الحبوبُ عن أجراسِها وأغلفتها، ويصيرُ القشُّ تبنا، يُرْكَمُ بعضُه فوقَ بعض كأجمل عُرْمةٍ تنتظرُ المذاري والشواعيبَ، و”شَرْوَة” أتطلعُ إليها؛ أقايضُ بها التفاحَ بالحبوب.
خيَّمَ عليَّ الانبهارُ حين دخلت البستان الجنوبي، وباحتشامٍ يعتريهُ شيءٌ من الخوف الطفولي ناديت، وقبل أن يأتيَني الجواب جالت عيناي على عجلٍ في فضاءِ “المارس”، فبدا لي لوحةً صقيلةً، زعفرانيةَ الثرى، خضراءَ السديم، لا يعتورُها حجرٌ هنا، أو نبتةٌ شاردةٌ هناك، ويحيطُ بها سوارٌ مُحْكَمٌ من الصَّبار؛ يحرسُ شجَيْراتِ المشمشِ والسفرجلِ والخروبِ، وأسرابَ التفاحِ واللوْزِ والدوالي والتينِ والرمانِ؛ ويحول بين يدي الفضوليين، وعبث الأطفال المغامرين.
وبلغتْ دهشتي ذروتَهَا حين وقع بصري على شتولٍ من الأصيبعا والمرار والسناريا والعكوب ولسان الجمل مزروعة بين الأشجار، فشغلتني عن النظر إلى عناقيد التفاح المتداعيةِ بألوانِها الخجولةِ والصاخبةِ التي طالما سال لعابي عند مشاهدتها، ومنيْتُ نفسي بها.
ظهر الشيخ حسن”أبو محمد”، ونادى ابنه الوحيد الذي كان يتسكع في أطراف “المارس” الشمالي؛ ينشدُ كوزَ صَبْرٍ نضجَ قبلَ غيره. سألني: ما الذي معك؟ فقلت: “شَرْوَةُ” عدس، فأخذها، ولحقت به إلى الكوخ “الخشة” الصغيرة، فوضع الحبوب في الميزان ذي الكفتيْن، وجعل حجراً في الكفة الأخرى، وبما يعادلها من التفاح السُّكري ملأ الكفة بعد أن أفرغ ما فيها من حبوب في كيسِ خيش. عدتُ جذلاً بما غنمتُ، ومدهوشاً مما شاهدت.
وصل ابنه محمد”**أبو هيكل” لاهثاً وفي عينيْه الزرقاويْنِ خوفٌ لم أفهم سره، فخرجت أسترق النظر إلى ذاك الشاب الذي كُنِّيَ سُخريةً بأبي هيكل؛ لمداومته على قراءةِ الجريدةِ وما تيسَّرَ من المجلاتِ الفنيةِ والقصصِ البوليسية.
وكَبُرَ معي سؤالٌ، لِمَ لمْ يتزوجْ أبو هيكل وهو وحيدٌ بينَ خمسِ أخوات، وطالما تمنى أن يكون له زوجٌ وأسرة؟ وهو لا يختلفُ كثيراً عن غيره من أبناء قريتنا اليتامى، وأشباه اليتامى، وأبناء الأراملِ، والمحظوظين بالوالديْنِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق