مقالات

مِنْ مَجالِسِ ثَعْلَب -أ.د. لطفي منصور

(أَدَبٌ، لُغَةٌ، فَصاحَةٌ، بَلاغَةٌ، نَحْوٌ، شِعْرٌ)
أَبُو الْعَبّاس ثَعْلَبٌ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَسارٍ الشَّيْبانِيُّ بِالْوَلاءِ إمامُ الْكُوفِيِّينَ في اللُّغَةِ والنَّحْوِ، وَكانَ مُعاصِرًا لِمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ (ت ٢٨٦هج) إمامِ الْبَصْرِيِّينَ، وَصاحِبِ كِتابِ الْكامِلِ في الْأَدَبِ. وَبَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مُناظَراتٌ وَمُطارَحاتٌ كَثيرَةٌ.
أَلَّفَ ثَعْلَبُ كِتابَ “الفصيح، حَقَّقَهُ محمّد عَبْدُ الْمُنعم خفاجي”، وَلَهُ كِتابُ “مَجالسُ ثَعْلب” في مُجَلَّدَيْنِ. وهي مُحاضَراتُهُ وَإمْلاءاتُهُ عَلَى طُلّابِهِ في مَسجِدِ الكوفَةِ. وَلَهُ شَرْحُ ديوانِ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى، وَكِتابُ مَعاني الشَِعْرِ. تُوُفِّيَ ثَعْلَبُ سَنَةَ (٢٩١ هج) وَهُوَ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ.
مُقْتَطَفاتٌ مِنْ مَجالِسِهِ:
قالَ أبو الْعَبّاسِ ثَعْلَبُ:” ماتَ مَعْروفُ بنُ فَيْروزَ الْكَرْخِيُّ (أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفيِّينَ وَصاحِبُ كَراماتٍ) في بَغْدادَ سَنَةَ مِائَتَيْ ،،نِ وَفيها كانَ مَوْلِدِي. ابْتَدَأْتُ النَّظَرَ في الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَاللَُغَةِ وَعُمْرِي سِتَّ عَشْرَةَ.
قالَ يَقُصُّ عَلَى تَلامِيذِهِ عَنْ أَيّامِ حَداثَتِهِ:”رَأَيْتُ الْمَأْمُونَ لَمّا قَدِمَ مِنْ خُراسانَ في سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بابِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ يُرِيدُ قَصْرَ الرُّصافَةِ، وَالنّاسُ صَفّانِ في الْمُصَلَّى, وَكانَ أَبي قَدْ حَمَلَنِي عَلَى يَدٍهِ، فَلَمّا مَرَّ الْمَأْمونُ رَفَعَني وَقالَ: هذا الْمَأْمُونُ، وَهَذِهِ سَنَةُ أَرْبَعٍ ، فَحَفِظْتُ ذَلِكَ الزّإلَى هَذِهِ الْغايَةِ.
وَحَذَقْتُ الْعَرَبِيَّةَ (تعني الْعَرَبِيَّةَ في ذَلِكَ الزَّمَنِ النَّحْوَ)، وَحَفِظْتُ كُتُبَ الْفَرّاءِ (أبو زَكَرِيّا يَحْيَ بْنِ زَكَرِيّا الْفَرّاءُ، إمامُ الْكوفِيِّينَ في النَّحْوِ، كانَ يُعارِضُ سيبَوَيْهِ، وَلَمّا ماتَ وجَدُوا “الْكِتابَ” تَحْتَ رَأْسِهِ، كانَ يَتَتَبَّعُ خَطَأَهُ لِيُصْلِحَهُ، كانَ مُؤَدِّبًا لِوَلَدَيِ الْمَأْمُونِ. لَهُ كِتابُ “معاني الْقُرْآن”، وقامَ المُسْتَشْرٍقُ الْأُسْتاذُ كينبِرغ بِوَضْعِ مُعْجَمٍ ضَخْمٍ لهذا الْكِتابِ الْعَظيمِ، وَقَدْ ذَكَرَني في مُقَدِّمَتِهِ. توفيَ الفرّاءُ سَنَةَ (٢٠٧ هج).
حَتَّى لَمْ يَشُذَّ عَنِّي حَرْفٌ مِنْها.
يَقولُ أبو الْعَبّاسِ ثَعْلَبُ في مجالِسِهِ في تَفْسير الْآيَةِ (٢٢) مِن سورَةِ الشُّعَراءِ، وفيها رَدُّ موسى عَلَى فِرْعَوْن: “وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنَّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرائِيلَ”، أَيْ اتَّخَذْتَ النّاسَ عَبِيدًا وَاتَّخَذْتَنِي وَلَدًا، كَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالنِّعْمَةِ.
(مَنَّ يَمُنُّ: عَيَّرَ بِالنِّعْمَةِ، وَهُوَ سُلُوكٌ شائِنٌ. جاءَ في الْقُرْآنِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أنْ هَداكُمْ لِلْإيمانِ.
وَقالَ الْمُتَنَبِّي في هِجاءِ كافورٍ: البسيط
وَتَغْضَبُونَ عَلَى مَنْ نالَ رِفْدَكُمُ
حَتَّى يُعاقِبَهُ التَّنْغِيصُ وَالْمِنَنُ.
وَهَذا أبو فِراسٍ يَقولُ مِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ: طَويل
يَمُنُّونَ أَنْ أَبْقَوْا ثٍيابي وَإنَّما
عَلَيَّ ثِيابٌ مِنْ دِمائِهِمُ حُمْرُ
وَقائِمُ سَيْفٍ فِيهِمُ انْدَقَّ نَصْلُهُ
وَأَعْقابُ رُمْحٍ فِيهِمُ حُطِّمَ الصَّدْرُ)
أنْ عَبَّدْتَ، أَنْ أَسْلَمُوا: أنْ في المَوْقِعَيْنِ هيَ الْمُخَفَّةُ مِنَ الثَّقيلَةِ، واسمُها ضَميرُ الشَّأْنِ المحذوفِ، وتقديرُهُ أَنَّهُ، وَهُوَ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والجملَتان الفِعْلِيَّتانِ في مَحَلِّ رَفْعٍ خبرُ اَنْ في الْحالَتَيْنِ. وَيُمْكِنُ أنْ تَكُونَا تَفْسيرِيَّتَيْنِ لا مَحلَّ لَهُما مِنَ الْإعرابِ.
قالَ ثَعْلَبُ: كانَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَمَرَّ بِماءٍ يَنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ عَلَى صَخْرَةٍ قَدْ أَثَّرَ فِيها، فَقالَ: الْماءُ عَلَى لَطافَتِهِ قَدْ أَثَّرَ في صَخْرَةٍ عَلَى كَثافَتِها، وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ. فَطَلَبَ فَأَدْرَكَ.
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبُ شِعْرًا جَميلًا فَصيحًا مِنْ حِفْظِهِ: مِنَ الطَّويل
– فَما بالُ مَنْ أَسْعَى لِأُجْبِرَ عَظْمَهُ
حِفاظًا وَيَنْوِي مِنْ سَفاهَتِهِ كَسْرِي
(المعنَى: اِعْمَلْ خَيْرًا تَلْقَ شَرًّا حِفاظًا: مَفْعولٌ لِأجْلِهِ)
– أَعُودُ عَلَى ذِي الذَّنْبِ وَالْجَهْلِ مِنْهِمُ
بِحِلْمِي، وَلَو عاقَبْتُ غَرَّقَهُمْ بَحْرِي
(وَلَوٍ عاقبتُ..الخ، مَثَلٌ رائِعٌ)
– أناةً وَحِلْمًا وَانْتِظارًا بِهِمْ غَدًا
فَما أَنْتِ بِالْوانِي وَلا الضَّرَعِ الْغُمْرِ
(أَناةً وَحِلْمًا منصوبانِ على الْمصْدَرِ. الأَناةُ: الصَّبْرُ وَالتَّرَوِّي، الْواني: البَطِيءُ، الضَّرَعُ: الْجَبَانُ، الْغُمْرُ: الْجاهِلُ الَّذِي لا تَجْرِبَةَ لَهُ.
(قالَ أَبو فِراسٍ: الطَّويل
أُسِرْتُ وَما صَحْبِي بِعُزْلٍ لَدَى الْوَغَى
وَلا فَرَسِي مُهْرٌ وَلا صاحِبُهُ غُمُرُ)
– أَظُنُّ صُروفَ الدَّهْرِ وَالْجَهْلِ مِنْهُمُ
سَتَحْمِلُهُمْ مِنِّي عَلَى مَرْكَبٍ وَعْرِ
(يا لَلْبَلاغَةِ! وَفي الْمَثَلِ: حَمَلَهُ عَلَى مَرْكَبٍ وَعْرِ أوْ صَعْبِ أوْ وَخْمِ، أَيْ جَعَلَ نِهايَتَهُ وَحيمَةً)
– أَلَمْ تَعْلَمُوا أنِّي تُخافُ عَرامَتِي
وَأَنَّ قَناتي لا تَلِينُ عَلَى الْقَسْرِ
(تُخافُ فِعْلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهْولِ، العرامَةُ: نائِبُ الْفاعِلُ، مِنَ الْعَرَمِ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ سَيْلُ الْعَرِمِ لِسَدِّ مَأْرِبَ، الشَّطْرُ الثّاني مِنَ الْبَيْتِ مَثَلٌ رائِعٌ مَعْروفٌ، القَسْرُ: الْقُوَّةُ والْقَهْرُ)
تَمَّ الِاخْتِيارُ وَالضَّبْطُ والشَّرْحُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق