مقالات
تحرير التوحيد * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري” * عنوان المقالة: ” الإسلام، مشروع استرداد الإنسان من سوق العبودية الحديثة” (5-6 )

دقيقتين من ذهب
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
يقول تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)
* عبودية العصر الحديث: عبيد لا يعرفون أنهم عبيد
لم تكن الجاهلية القديمة تُخفي عبوديتها، كانت السوق واضحة، يُباع فيها العبيد ويُشتَروْن، يُوسَمون على الجِباه، ويُسلّم مصيرهم إلى أهواء السادة.
لكن الجاهلية المعاصرة أشد خفاءً، وأكثر فتكًا، إنها لا تسمي نفسها عبودية، لكنها تصنع الإنسان المستعبد على عينها، ثم تقنعه أنه حر.
– لقد تحوّل الإنسان الحديث إلى سلعة تُروَّج وتُستَهلَك: جسده أداة للإعلان، ووعيه ملعبٌ للبرمجة، ووقته مادةٌ للإنتاج الربحي، ورغباته سوق مفتوح لا يُغلق.
تُنتهك خصوصيته تحت شعار “الشفافية”، وتُراقب أنفاسه باسم “السلامة”، ويُعاد تشكيل وعيه من خلال خوارزميات تستثمر في أحلامه ومخاوفه في آنٍ واحد.
* التوحيد: إعلان تحرر لا يقبل التفاوض
هنا يظهر الإسلام لا كدين فقط، بل كمشروع استرداد جذري للإنسان.
فهو لا يبدأ بإصلاح العالم من الخارج، بل بإعادة بناء الإنسان من الداخل: كرامته، حريته، غايته، موقعه من الكون، وحدوده مع الخالق.
إن أول إعلان في الإسلام لم يكن اقتصاديًّا ولا سياسيًّا، بل كان صرخة توحيد: ﴿لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾، وهذه الكلمة وحدها كانت كفيلة بقلب منظومة كاملة من التسلّط البشري.
* السيد الواحد.. ونقض هرم الهيمنة
التوحيد، في جوهره، هو رفض أن يُختَطفُ الإنسان من قِبلِ أي قوة دون الله: لا مال، لا سلطة، لا رغبة، لا منظومة تُعيد تشكيله بغير وعيه.
لذا كان الإسلام مشروعًا تحريريا لا يُساوم، لأنه يعلن أن السيد الوحيد في هذا الكون هو الله، وكل ما سواه عبد.
ولهذا، فإن الإسلام لا يساير سوق العبودية الحديثة، بل يفضح بُنيتها.
– يُذكّر الإنسان بأن كرامته ليست في حجم رصيده، بل في مدى عبوديته لله وحده، وأن حريته لا تُقاس بقدر ما يستهلِك، بل بقدر ما يتحرّر من الاستهلاك ذاته.
* العبادات: انسحاب من السوق لا يُعلَن
فحين يتوضأ المسلم خمس مرات في اليوم، وينتزع نفسه من دوامة الضجيج ليقف خاشعًا بين يدي ربه، فإنه لا يُمارس طقسًا فرديًّا فقط، بل يعلن – دون أن يدري – انسحابه من السوق، ورفضه أن يكون مسمارًا في آلة استهلاك لا ترحم.
وحين يصوم، فإنه لا يُجَوّع نفسه فقط، بل يَفضح آلهة الشهوة والتدفق والسرعة التي تعبدهما الحضارة المعاصرة.
* التوحيد وتحرير الإرادة الأخلاقية
إن تحرير الإنسان في الإسلام لا يعني الفوضى، بل يعني إعادة توجيه الإرادة لتكون خاضعة للحق، لا للهوى،
فالإنسان ليس حرًا ليظلم أو ليعتدي، بل هو حر لأن اختياره الأخلاقي جزء من تكليفه.
قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾
(الإنسان: 3)، فجعل الحرية في صلب الابتلاء، لا أداة للهروب منه.
* استرداد المعنى.. واسترداد الإنسان
إن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يُدير عجلة العالم، بقدر ما يريد أن يُعيد توجيهها.
يريده أن يسير وهو يعلم: “أنا عبد لله، لا عبد لهذا العالم”.
وبهذا المعنى يكون التحرّر الإسلامي تحررًا من الداخل، تحررًا من كل آلهة العصر التي تتخفّى خلف شعارات جميلة.
* خاتمة: حين يُعلن التوحيد تحدّيه الأخير
في زمن تتبدّل فيه أسماء السادة، وتُصاغ العبودية بلغة الحرية، يعود الإسلام ليقول: “قِف… هذا الإنسان ليس خادمًا لغير الله” … ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الحرب الناعمة: كيف يُعاد تشكيل وعي الأمة بعيدًا عن عقيدته”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا يا الله.
* مقالة رقم: (2011)
* 09 . محرّم .1447 هـ
* الجمعة . 04.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
إكرم على نفسك بدقيقتين من وقتك الثمين
* الحرب الناعمة
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”
* عنوان المقالة: “الحرب الناعمة: كيف يُعاد تشكيل وعي الأمة بعيدًا عن عقيدتها؟” (06)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: حين يصبح الغزو بلا مدافع
لم تعد الحروب الحديثة تعتمد فقط على فوهات البنادق أو طنين الطائرات؛ بل أصبح الوعي البشري هو الميدان الأخطر، إنها الحرب الناعمة، التي لا تسفك الدماء مباشرة، لكنها تُفرغ العقول من معانيها، وتُبدّل العقائد تحت شعارات الحرية، والفن، والتحديث.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة: 217)، فالصراع على العقيدة لم يتوقف، بل تغيّرت أدواته فقط، ومن أدواته:
* أولًا: الإعلام.. هندسة السرديات الجديدة
لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل صار مصنعًا للمعاني، تُرسم فيه صورة المسلم المتخلّف مقابل المتحرّر المتقدّم، تُضخ البرامج والأفلام بمضامين تخدم رسالة واحدة: إعادة تعريف الحق والباطل وفق هوى الإنسان، وتكريس الشرك الحضاري القائم على عبادة السوق والمادة والهوى.
في هذا المشهد، يصبح البطل من يتحدى الدين، وتُصوَّر المحجّبة ككائن غريب، وتُمجَّد النماذج المتصادمة مع نصوص الوحي.
* ثانيًا: التعليم.. غرس المفاهيم المسمومة
التعليم لم يعد محايدًا، كثير من مناهج العالم الإسلامي باتت خاضعة لجهات تمويل وتوجيه خارجية، تمحو مفردات العقيدة، وتُهمّش مفاهيم الجهاد، والولاء والبراء، وتقدّم الإسلام كحالة روحية فردية، لا مشروعًا حضاريًا عامًا. قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ﴾ (يوسف: 108)، لكنهم يسعون إلى تحويل السبيل إلى هامش، والبصيرة إلى ظنون نسبية.
* ثالثًا: الثقافة والفن.. صبغ القيم بصبغة الشرك
تُنتَج الثقافة الناعمة اليوم على هيئة أغاني وأفلام وروايات تقدم مفاهيم “الحرية” الفردية المنفلتة، و”تمكين” المرأة عبر نزعها من دورها الفطري، وتشيع نماذج تغرّب الإنسان عن دينه، يُختزل الإنسان في جسده، ويُقزّم في نزواته، ويُقدَّم ككائن مستهلك لا كخليفة.
– هم لا يحاربون الحجاب فحسب، بل يحاربون الحياء، لا يحاربون الإسلام كاسم، بل كمضمون ومشروع.
* رابعًا: نزع القداسة عن الوحي وتقديس الإنسان
في قلب هذه الحرب الناعمة، تُبنى العقيدة الجديدة على ثلاثية:
• الإنسان هو المركز.
• السوق هو المعيار.
• العقل هو المرجع الأعلى.
وهي عقيدة شركية تصادم التوحيد الذي يجعل الله وحده الحَكم والهادي والمشرّع، فبدلًا من “قال الله وقال رسوله”، أصبحت المراجع هي الاتفاقيات الدولية ومؤسسات “الحقوق”، دون ميزان شرعي أو وحي مُنزّل.
* خامسًا: نحو مقاومة تبدأ من العقيدة
أخطر ما في هذه الحرب أنها تُقدَّم بأسماء براقة: الفن، السلام، تطوير التعليم، حرية التعبير… مما يجعل اختراقها أكثر سهولة، ولذا، لا بد من مقاومة تبدأ من تحقيق التوحيد، كما قال تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ﴾ (البقرة: 256)
* ختامًا: يريدون أمّةً بلا بوصلة
الحرب الناعمة ليست وهمًا، بل واقع حي، إنها لا تُبدّل فقط طريقة التفكير، بل تغيّر المرجعية: من نعبد؟ من نُطيع؟ من نُرجّح؟
والجواب الحقّ:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162) فصمود العقيدة حصن لا يُخترق، وهو أقوى سلاح في مواجهة هذه الحرب الناعمة.
– إن العقيدة ليست مجرد أفكار تُقال، بل هي حياةٌ يُمارسها الإنسان في كل تفاصيله، ووعيٌ يملأ وجدانه، يُصون نفسه وأمته من التلاعب والتزييف، قال رسول الله ﷺ: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” (رواه مسلم)، فلتكن خطواتنا في مواجهة هذه الحرب مدعومة بهذا الإيمان، تنير دروبنا وتحصننا من الفتن… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “من مكة إلى العالم: رحلة التوحيد في وجه شرك الأنظمة”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا يا الله.
* مقالة رقم: (2012)
* 10 . محرّم .1447 هـ
* السبت . 05.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)