مقالات
من روائع كتابات أ.د. لطفي منصور “لا أَدْرِي”
إذا قالَ الْعالِمُ لا أَدْرِي فَقَدْ أَفْتَى.
عِبارَةٌ لَها شَأْنٌ عَظِيمٌ في القَضاءِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْمَسائِل الَّتِي تَحتاجُ إلَى أَجْوِبَةٍ ، وَفي الدُّروسِ وَالْمُحاضَرات وَغَيْرِها.
مَهْما كانَ الْعالِمُ مُتَبّحِّرًا في الْعُلُومِ فَإنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلِمَّ
بِكُلِّ شَيْءٍ في الْمَواضِيعِ الَّتِي يَتَخَصَّصُ بِها، لِسَعَتِها وَكَثْرَتِها وَتَشَعُّبِها. وَفي هذا يَقُولُ أَبُو نُواسٍ:
قُلْ لِمَنْ يَدَّعِي في الْعِلْمِ فَلْسَفَةً
عَرَفْتَ شَيْئًا وَغابَتْ عَنْكَ أَشْياءُ
وَمِنَ الَّذِينَ واجَهَتْهُمْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ الْإمامُ الْأَكْبَرُ أَبُو حَنيفَةَ النُّعْمانُ (ت١٥٠هج) صاحِبُ الْمَذْهَبِ الَّذي قالَ (بِتَصَرُّفٍ): ما جاءَ في كِتابِ اللَّهِ نَعْمَلُ بِهِ، وَما جاءَ عَنِ النَّبِيِّ نَعٍمَلُ بِهِ، وَما جاءَ عَنِ الصَّحابَةِ نَعْمَلُ بِهِ، وَما جاءَ عَنِ التّابِعِينَ نَعْمَلُ بِهِ. أمَّا مَنْ جاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَتْباعِ التّابِعِينَ وَأنا مِنْهُمْ اِجْتَهَدُوا وَأُنا أَجْتَهِدُ مِثْلَهُم.
ثُمَّ جاءَ فُقَهاءُ وَطَعَنُوا بِرَأْيِ أبِي حَنيفَةَ وَاجْتِهادِهِ واسْتِحْسانِهِ، وَأَشْهَرُهُمْ أَحْمَدُ ابنُ حَنْبَلٍ (ت٢٤١هج) الَّذِي أّلَّفَ (مُسْنَدْ أَحْمَدْ) يَحْتَوِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، ضَمَّنَها الْأَحادِيثَ الضَّعِيفَةَ. وَزَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ خَيْرٌ مِنْ رَأْيِ أَبي حَنيفَةَ. وَحارَبَ ابْنُ حَنْبَلٍ الْعَقْلَ الْإنْسانِيَّ. وصَرَّحَ بِمَقالَتِهِ الْمَشْهورَةِ “بِلا كَيْفَ”، وَعِنْدَهُ الْعَقْلُ ناقِصٌ ، وَضَرَبَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، مِنْها الظِّلُّ وَالقَمَرُ والشَّمْسُ والنُّجُومُ كُلُّها تَتَحرَّكُ، وَلا نَراها تَتَحَرَّكُ.
هُناكَ مَسائِلُ في الْعُلومِ الْنَّقْلِيَّةِ والْعَقْلِيَّةِ تَعْسُرُ الْإجابَةُ عَلَيْها، لِأَنَّ الْعالِمَ لَمْ يَجِدْ لَها في النُّصُوصِ الْمُعْتَمَدَةِ كَالْقُرْآنِ وَالْحَديثِ والسُّنَّةِ والسِّيرَةِ، وَأَقْوالِ الصَّحابَةِ أَجْوِبَةً لِتِلْكَ الْمَسائِلِ والْقَضايا
فَيَضْطَّرُ الْعالِمُ الْمُفْتِي إلى طُرُقٍ أُخْرَى يُعْمِلُ فيها فِكْرَهُ كَالْقِياسِ والِاجْتِهادِ وَالرَّأيِ والِاسْتِحْسانِ .
فَإنْ لَمِْ يَهْتَدِ هذا الْعالمُ إلى الْحَلِّ الْمُناسبِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: لا أَدْرِي. وَلَيْسَ في هَذِهِ الْفَتْوَى عَيْبٌ.
في مِثْلِ هَذِهِ الْحالَةِ تُعْرَضُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْإجْماعِ ، وهو آخِرُ طُرُقِ الْفِقْهِ. أيْ إجْماعُ عُلَماءِ الْأُمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ الّذينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَصاحِهاُ، وَما يُفْتُونَ بِهِ مُلْزِمٌ لَها.