اقلام حرة

الدين مابعد الحداثة . ومابعدها ادهم ابراهيم

ليس هناك اجماع على اصل الاديان . . ويبدو ان الانسان منذ نشاته الاولى على الارض شعر بان هناك مخاطر عديدة تواجهه ، مثل الصواعق والنار والحيوانات المفترسة وغيرها . . وقد ساعد الايمان بقوى خارقة في ماوراء الطبيعة الانسان لتحمل ومقاومة هذه المخاوف . من خلال الطقوس الدينية لاستحصال رضى هذه القوى وحمايته من الاخطار . وعند تطور الانسان وانتقاله الى الزراعة تكونت المجتمعات والتكتلات الانسانية . وقد توجب تنظيم هذه المجتمعات بقواعد ملزمة للحفاظ على الامن والسلام ، وحل النزاعات . ، ويبدو ان الانسان قد ادرك منذ القدم بان سلطته قاصرة امام اخيه الانسان ، ولذلك ابتدع فكرة التواصل مع الالهة لغرض فرض هذه القواعد على افراد المجتمع باسم الالهة . وقد تبدى هذا جليا في مسلة حمورابي . حيث اعطته الهة الشمس مثل هذه القواعد القانونية ، لكي يلزم بها الافراد الذين هم تحت سلطته وادارته . . وقد كانوا في ذلك الزمن يعبدون الكواكب والنجوم ، واعتبروها الهة تحدد مسار حياتهم وحياة حيواناتهم وزراعتهم ومستقبلهم ايضا . واستمر هذا النهج حتى عند اليونانيين القدماء والرومان . حيث كانت لديهم الهة متعددة للجمال والحرب والزراعة والامطار والخصب وغيرها . . حتى وصل الامر نتيجة التطور الانساني الى ان يؤمن الانسان بخالق واحد .وهذه هي الديانات التوحيدية التي بدأت بالنبي ابراهيم خليل الله ، ثم موسى ، الذي كلم الله واعطاه الالواح التي حددت القواعد والضوابط الاخلاقية العشرة لكي يقدمها لبني اسرائيل للحفاظ على السلم الاهلي للمجتمع ( وهذا مشابه تماما لمسلة حمورابي ) .ولذلك نرى في بداية نشوء الدولة البدائية ، ان القواعد والاسس الدينية هي الحاكمة بين الناس .وهي التي تعطي السلطة لشيخ العشيرة او حاكم المدينة ، ليفرض ارادته على الناس ، وليقدموا له الطاعة والولاء . كل ذلك بامر من الالهة ، او الاله الواحد .
وفي الدين الاسلامي لم نجد هناك قواعد كثيرة تحكم بناء الدولة . فيما عدا الشورى والعدالة بين الناس ، وهناك قواعد تنظم الزواج والميراث والربا وبعض القصاص او التعزير وغيرها . ولم تكن لدى المسلمين قواعد خاصة لاختيار الحاكم او الخليفة . . واول دولة ظهرت فيها المقومات الاساسية هي الدولة الاموية .حيث تاسست على وفق ما كان معمولا به في بلاد الشام من تنظيم للدولة الرومانية في الادارة ومسك السجلات وصك النقود ودار الجند وغيرها . واستمر الحكم الاسلامي على هذا المنوال حتى الدولة العثمانية ، التي نشأت وتوسعت باسم الدين ايضا . الا انها في الحقيقة كانت تمارس سياسة قومية تركية غطت في كثير من الاحيان على المفاهيم الدينية . . ولو كان الدين اساس الدولة لجعلت لغتها لغة القران بدلا من سياسة التتريك . كما ان سلاطين ال عثمان كانوا حريصين على السلالة العثمانية وبقائها بالسلطة اكثر من حرصهم على الاسلام او اختيار خليفة من غير هذه السلالة . . وكذلك كان حال الدولة الصفوية في بلاد فارس . حيث اوجب الشاه فرض مبادئ واجتهادات طائفة معينة ليستطيع حكم الناس من خلالها باسم الدين ايضا . في حين ان الحروب والتوسعات الفارسية كانت توسعات قومية اكثر منها دينية . وفي كل الاحوال كان الدين وسيلة للحكم والفتوحات في كل الامصار الشرقية والغربية .
ومن كل ذلك يظهر بان الدين كان قد وجد لتنظيم القواعد الاساسية للتجمعات الانسانية ، ثم اقامة الدول على اسس دينية حتى يستطيع الحاكم ان يسيس الناس بما يشاء باسم الالهة او الدين او باسم الاله الواحد . وتستوي في ذلك كل الديانات بلا استثناء
وفي المجتمعات الغربية سار الامر على نفس المنوال هذا . واستمر الحال في حكم الناس وتسييسهم وفق السلطة المستمدة من الدين والالهة او الاله الواحد فيما بعد . . حتى جاءت الثورة الفرنسية وعصر التنوير ، حيث تمرد الناس وثاروا على حكامهم وعلى رجال الدين الذين آزروهم . . وقرروا اقامة الدولة العلمانية على اساس العقد الاجتماعي الذي برع به جان جاك روسو . ثم جرى تطور الدول الحديثة بتطور الادارة والتنظيم بمعزل عن القواعد والسلطات الكهنوتية او الدينية
اما عندنا في الدول العربية والاسلامية فقد استمر الحكم الدكتاتوري المستند على حكم الفرد الواحد والذي يستمد سلطته من الدين او من الاله الواحد . . واصبح الخروج عليه هو الخروج عن الدين والتكفير الموجب لقطع الروؤس . ، فا اصبح الحاكم الاب الروحي للشعب ، وله السلطات المطلقة لانه يحكم بموجب شرع الله الواجب الطاعة في كل الاحوال
وبعد الحرب العالمية الاولى والثانية لم تدخل الحداثة بمفهومها الواسع الى الدول العربية الا من قبل بعض النخب الفنية والادبية اما الحداثة وما بعدها من نواحي المجتمع والثقافة والدولة فلم يسمح الحكام ولا رجال الدين بها ، لانها تتعارض مع بقائهم في السلطة . وحجتهم في ذلك انها بدع غربية تخالف الدين الحنيف . . وفيما عدا النخب بقي الشعب جاهلا واميا . وبقي مستمرا بالخنوع للسلطان الجائر المستند على السلطة الالهية الممنوحة له . . وطاعة السلطان من طاعة الله . . وقد تم تلقين الناس الى يومنا هذا على ان الحداثة لعنة عليهم ، حيث ان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . . فحرم الناس من مفاهيم الحداثة ناهيك عن ما بعد بعد الحداثة . وظل الامر كذلك حتى نجد ان الذين قاموا بالثورات العربية او الربيع العربي هم الطبقات المتعلمة والمثقفة . . ولما جرى التصويت فيما بعد انتخب الناس الاشخاص الذين يتماهون معهم . وهم الاشخاص البعيدين عن الحداثة او التطور لانها لا زالت تتنافى عندهم مع المبادئ الدينية التي تربوا عليها ، ولان الحل يكمن في هذه المبادئ
وعلى هذا الاساس استغل رجال الدين والاحزاب الاسلامية الاغلبية الصامتة والجاهلة هذه لاعادة تدوير سلطة الحاكم المطلق ، وبسلطات دينية اكثر تشددا من السابق . . وهذا ما جرى في مصر . . ومثل هذا بطريقة او باخرى ببعض البلدان ومنها العراق الذي اصبح نتيجة الحصار الذي استمر لاكثر من عشر سنوات من الدول المتخلفة . وادى ذلك الى تخلف الناس وانتشار الامية والجهل بينهم ، فا اصبحوا فريسة سهلة بيد ادعياء الدين والطائفيين الذين استغلوا الناس البسطاء باسم الديمقراطية والولاء للدين او للطائفة . فتم سيطرة الاحزاب الدينية في العراق . وتم تجهيل الناس فوق جهلهم ، ولا زال الامر كذلك الى يومنا الحاضر . . وظل الانسان العربي والعراقي يعيش في الماضي دون ان يتفكر في المستقبل الواعد له ولاولاده
في حين ان الغرب قد انتقل من مرحلة التصنيع الى ما بعد الصناعة . واضحى الان في مجتمع التكنولوجيا الفائقة . وهي التكنولوجيا الرقمية المعتمدة على الحاسوب والطباعة ثلاثية الابعاد، ، والاتمتة الكاملة كما انتقل المجتمع الغربي الى مرحلة ما بعد بعد الحداثة . ورفض الكلية والشمولية ، اخذا بمبدا الفكر الخلاق وحرية الراي المبنية على عدم انكار الاخر ، ورفض القواعد الثابتة
ان المعضلة الاساسية التي نعاني منها الان ، ليس في تجاهلنا للحداثة او ما بعد الحداثة ولا رغبتنا في الانظمام الى نادي الدول المتحضرة ،بل ان المسلم عندنا اصبح غير قادر على معرفة مقاصد الشرع من الكتاب والسنة ، فاخذ يبحث عن من يشرح له الدين ويفسره . بل ان كثير من الناس قد ابتعدوا حتى عن قراءة القرآن الذي هو كتابهم المقدس . . وافترقوا شيعا واحزابا حتى داخل الطائفة الواحدة ، نتيجة الاجتهادات والتفسيرات الكثيرة التي نستمع اليها يوميا وما انزل الله بها من سلطان . . حتى وصلوا الى حد الصدام المسلح
لقد اصبح لزاما علينا ان ننبه الناس الى ان الدين ، اي دين لم يعد صالحا لبناء دولة مدنية عصرية . وان تسطيح المفاهيم الاساسية لبناء الدولة لم يعد مجديا لمواكبة التقدم التكنولوجي والفكري والحضاري لبناء الاتسان والدولة معا . . وان الدجل والشعوذة واستغفال الجماهير وعزل المراة ونبذ الثقافة والفنون والاداب لن تبني مجتمعا متقدما ولا انسانا فاعلا قادرا عل العطاء . . ومع ذلك فان الدين يبقى مبادئ سامية ، وعلاقة فردية بين الانسان وخالقه . ولا يتوجب علينا فرض دين معين او مذهب على المجتمع ، او على اي فرد من افراده وبدلا من ذلك علينا ان نقدس العمل ، ونترك قدسية الفرد او قدسية العادات والتقاليد الموروثة من الزمن الغابر . . وعندئذ فقط يمكن ان ندخل في العصر الحديث عصر التقدم والحضارة لنقيم الديموقراطية الحقيقية ، المبنية على اساس العدل وحرية الفرد واحترام فكره وعقيدته دون فرض او استلاب

المصدر : الصدى نت

مقالات ذات صلة

إغلاق