مقالات
سلسلة جديدة رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
التمزق الداخلي: كيف يُفقد المحتوى المتقلب الإنسانَ توازنه النفسي؟ (2)
– في زمنٍ صارت فيه هواتفنا الذكية امتدادًا لأيدينا، ومع الكمّ الهائل من المحتوى المتقلب الذي نتلقاه عبر التطبيقات ومواقع التواصل، نشهد تشكّل ظاهرة مقلقة تتسلل بهدوء إلى داخل النفس البشرية وهي: التمزق الداخلي. فبدل من أن يكون المحتوى وسيلة لتثقيف الإنسان أو تسليته أو تهذيبه، صار عبئًا يوميًا على اتزانه النفسي، يُغذّي القلق، ويُضعف التركيز، ويُصيب الروح بالتيه والشتات.
– نتلقى اليوم في دقيقة واحدة مزيجًا عجيبًا من المشاعر والمضامين: مقطع مضحك، يليه فيديو عن كارثة إنسانية، ثم رقصة، يليه مشهد وعظي، ثم قصة حزينة، ثم إعلان، ثم سبّ وسخرية، ثم اقتباس ملهم… وهكذا… هذه الدوامة المتقلبة لا تترك مجالًا للنفس كي تهدأ أو تتفاعل بعمق مع محتوى معيّن، فكل شعور يُولد، يُجهض قبل أن يكتمل، ويُستبدل بغيره دون إنذار، وهذا ما يجعلنا نعيش باستمرار على سطح أنفسنا، دون أن نغوص في أعماقنا أو نمنح مشاعرنا الوقت لتتشكل بوعي.
* ما الذي يحصل؟
يحصل أن المشاعر تُستهلك بلا وعي، نضحك ونحزن ونغضب ونتأثر ونتشتت، في دقائق متلاحقة، دون أن نملك الوقت للتأمل أو التفاعل الحقيقي، ومع هذا التكرار، تصبح مشاعرنا سطحية، وردود أفعالنا تلقائية، ونفقد القدرة على التمييز بين ما يستحق الانفعال وما لا يستحقه، يحدث إرهاق شعوري هائل، لكنه غير مرئي، وغير مفهوم حتى لِمن يشعر به.
– يقول علماء النفس إن الدماغ لا يستطيع التأقلم مع هذا الكمّ السريع من التحفيز العاطفي المتناقض. والنتيجة؟ تبلّد في الإحساس، قلق دائم، شعور بالفراغ، عدم قدرة على التركيز، ميل للعزلة، ونوبات مفاجئة من الانهيار أو الضيق غير المبرّر، وقد نُرجِع ذلك إلى أسباب خارجية، بينما السبب الحقيقي يختبئ في جيوبنا: هاتف ذكي يبثّ إلينا كل لحظة مشاهد متقلبة بلا رحمة، ومن دون توقف.
* لكن لماذا نُصرّ على الغرق؟
الجواب في “الإدمان الخفي”، لقد صارت خوارزميات المنصات الاجتماعية تُبرمج أدمغتنا، تُشبِع فضولنا، وتغذّي رغباتنا، وتدفعنا للمزيد، وتمنحنا شعورًا زائفًا بالإشباع، وهكذا يصبح الإنسان أسيرًا لمحتوى لا يُشبع حاجاته الحقيقية، بل يُعمّق خواءه الداخلي ويُضاعف تمزقه النفسي.
* أين الدّينُ في هذا؟
الإسلام دين يُربّي الإنسان على التوازن والاعتدال، لا في الماديات فقط، بل في المشاعر والتفاعل مع الأحداث كذلك، يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143)، أي أمةً وسطًا في الفكر والسلوك، لا إفراط فيها ولا تفريط، ويقول النبي ﷺ : “إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعطِ كل ذي حق حقه” (رواه البخاري).
فكيف نعيش هذا التوازن ونحن نسلّم قلوبنا وعقولنا لدوّامة محتوى لا ضابط لها، تُفرِحنا وتحزِننا وتُشتّتنا في آنٍ واحدٍ ومن دون توقف؟ أليس من حق النفس أن تُصان من هذا التيه؟ ومن حق القلب أن يتذوق الطمأنينة لا أن يُنهك بقلق مستمر؟
* الخروج من المتاهة
يتطلب شجاعة: شجاعة الانسحاب أحيانًا، وشجاعة الانتقاء دائمًا، أن نُقلل من التصفح العبثي، أن نخصص وقتًا للتفكر، أن نعود للقراءة الهادئة، أن نُنعش أرواحنا بلحظات صمت، بلحظات تواصل حقيقي مع الذات ومع الله. ومن قبل ذلك، أن نُراقب قلوبنا: هل لا تزال تتأثر بآية؟ هل تبكي لمشهد إنساني؟ هل تفرح لذكر الله؟ أم صارت لا ترى في كل شيء إلا محتوى يُمرَّر ويُنسى؟
إن التوازن النفسي في هذا العصر لم يعد ترفًا، بل ضرورة للبقاء سويًّا في عالم يتغير أسرع من قدرتنا على الاستيعاب، فكن يقظًا، راقب قلبك، ولا تسمح للتيه الرقمي أن يسلبك إنسانيتك… ولكم مني تحية وسلام.
• وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: “الانفعال السريع والانطفاء العاطفي: كيف تُعيد وسائل التواصل تشكيل مشاعرنا؟”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1932)
* 17. شوال . 1446 هـ
* ألثلاثاء. 15.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)