ثقافه وفكر حرمقالات
وظيفيةُ علاماتِ الإعرابِ! Amr Madi عامر مهدي
نقصد بعلامات الإعراب باختصار شديد، وضعَ الحركاتِ الإعرابيةِ على أواخرِ الكلماتِ، أوْ تغييرَ رسمِ/حروفِ بعضِ الكلماتِ وفقًا لموقعِ هذهِ الكلماتِ في الجملةِ، مثل: (جمع الذكر السالم، والمثنى، والأسماء الستة، و…). والسؤال الذي أريد أن أناقشه هو: ما القيمة الوظيفية لعلامات لإعراب بمعناها المذكور هنا؟
قبل البدء، ينبغي أن نفرق جيدا (بين): ضرورة تمكّن المتعلّمين من معرفة المبتدأ، والخبر، والفعل، والفاعل، والمفعول به، والتفريق بين عبارات مثل (الاسم والصفة) و (الإضافة)، فكل هذا أمر ضروري جدًا، وكل هذا لا يعني علامات الإعراب، و(بين): علامات الإعراب. وما ندعيه أن المتعلمين قادرون على الإنتاج اللغوي كتابة وكلامًا قبلَ تعلمِ علاماتِ الإعرابِ بالمعنى الذي ذكرناهُ.
وعندما يقول المتعلّمون: (نحنُ نَلعب كرة القدم معَ الجيران كلّ يوم)، ويقولون (نحنُ نَلعبُ كرةَ القدمِ معَ الجيرانِ كلَّ يومٍ) فما الفرق في المعنى بين الجملتين؟ ومَن مِن العرب يتحدث هكذا -لو افترضنا جدلًا أن هناك من سيقول جملة كهذه بالفصحى؟ ومَن مِن العربِ يكتبُ كلَّ كتاباتِهِ هكذا بعلاماتِ الإعرابِ؟ والإجابة على التوالي هي: لا فرق. لا أحد تقريبًا. لا أحد تقريبًا.
إن الفارق الوحيد بين الجملة الأولى والثانية هو فرق على المستوى الأدائي، الجمالي لدي بعض المستمعين، وبعض القرّاء، لكنه ليس ثمة فرق على مستوى المعنى (١).
إذن، هل معنى هذا أننا لا نتعلم علامات الإعراب في صفوف اللغة الثانية؟ والإجابة بالطبع هي لا، فعلامات الإعراب درس له مكانه في القواعد، وينبغي أن يعلّم، ولكن السؤال هو (متى، وكيف، ولماذا).
إن إجابتنا عن تقديم أي قاعدة، منوطة دائمًا بالدور الوظيفي لهذه القاعدة. وبالبحث في الإجابة عن (متى) يتضح لنا أن المستوى المبتدئ بعيد البعد كله عن أي ضرورة وظيفية لعلامات الإعراب، وهذا ما يهمنا الآن في الإجابة عن (متى)؛ أي أن علامات الإعراب لا تقدم في المستوى المبتدئ.
أما عن كيف، فبالطبع بالطريقة التواصلية الواقعية، التي نحاول فيها تمكين المتعلّمين من فهم نصوص القراءة وتحليلها لغويًا، غير طالبين منهم الإنتاج الكلامي بالكسر وبالضم على أواخر الكلمات، أو حتى في الكتابة.
وما دام الأمر هكذا، فلماذا نتعلم علامات الإعراب؟ وفي الحقيقة إن ضرورة تعلم علامات الإعراب ليست ضرورة وظيفية، بل هي لأمرين:
o رفع معيار الدقة في الكتابة: أي في ضرورة أن يتقن متعلمو المستوى المتقدم العالي وما فوقه كتابةَ (جمع المذكر السالم والمثنى والأسماء الستة والأفعال الخمسة المجزومة والمنصوبة، والأسماء المنقوصة والممنوع من الصرف، والمنصوب النكرة الواجب إضافة ألف إلى آخره) بشكل سليم قاعديًا.
o تعميق فهم المتعلّمين أكثر بتركيب الجمل العربية وتكوينها والعلاقات اللغوية بين مفردات الجمل وبعضها، وبين الجمل وبعضها، والقدرة على إظهار الدليل على ذلك الفهم.
وليس هناك أي دور وظيفي للإنتاج الكلامي أو الكتابي بإشكال أواخر الكلمات. فعلى مستوى المعنى مثلًا حين يقول المتعلّمون (صام المسلمون، أو صام المسلمين) ستترجم في أدمغتهم إلى معنى واحد.
لكن على الرغم من كون هذا الخطأ واردًا في الكتابة أيضًا، فإن الكتابة لها وضع خاص يتطلب ضرورة كتابة (صام المسلمون)، واعتبار (صام المسلمين) خطأ (٢).
وفي الحقيقة هذا يتماشى بشكل كبير مع الواقع اللغوي؛ إذ إن العرب- في مجملهم ولا نقصد المتخصصين في العربية- حين يتكلمون بالفصحى فقد لا يدققون كثيرًا في تغيير حروف جمع المذكر السالم أو في تغيير حروف الأسماء الستة وفقًا لموقعها في الجمل، ولكن في الكتابة سيكون هناك اهتمام أكبر بضبط هذه القواعد. ونحن لا نقدم للمتعلّمين ما ينبغي أن تكون عليه اللغة، بل نعلم ما هو كائن وواقعي.
السؤال الوجودي = سؤال المليون دولار!
كيف يمكن أن يفهم المتعلّمون الآية القرآنية {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} “القرآن الكريم، سورة فاطر، الآية ٢٨”؟
١- لا بد لنا أن نحاول الوقوف على مفهوم اللغة بشكل أعمق. فاللغة ليست كلمة، وليست جملة، وليست فقرة، وليست النص منزوع السياق. اللغة لكي تكون لغة يجب أن تكون نصًا ذا سياق كامل، سياق واضح تمامًا، واضح بدون خلل أو غموض دائم (عدا اللغة الأدبية)، بدايته واضحة، وتسلسله واضح، وإذا افتقدت أي شيء مما سبق فلا تكون لغة.
فمثلًا حين يُقال: “في جملة (قتل أشرف أحمد) كيف سنعرف مَن القاتل إلّا بعلامات الإعراب؟”
فأردُّ: ليست هكذا تكون اللغة. أي أن أمشي في الشارع وأسمع فجأة الجملة السابقة، وأجد مَن يطلبون مني أن أعرف القاتل! في أي واقع يحدث هذا؟
أو أن أفتح كتابًا وأجد هذه الجملة فقط في وسط الصفحة، وعليّ أن أعرف من قتل الآخر. هذا أمر غير لغوي، وليس بسياق واقعي. لأننا في الواقع اللغوي سنستمع إلى قصة أو سنقرؤها، ونعرف بدايتها، وصفات كل واحد في هذه القصة، ثم نعرف مَن دخل السجن بعد قضية القتل، أو من فرّ بعد القتل وما زالت الشرطة تبحث عنه. هذا هو الواقع اللغوي، والسياق الحقيقي الذي ينفي اللبس تماما ويزيله.
مستحيل أن يحدث لبس في “لغة غير أدبية” إلا في أمور شديدة الندرة(٣)لا تتعلق بعلامات الإعراب، وإذا حدث أي لبس في أي حوار واقعي يدور فسيسأل أحد المتحاورين الآخر بشكل واضح عما التبس عليه. ولكن إذا أصبح اللبس المؤقت لبسًا دائمًا فلن تكون هذه “لغة”، ولن يكون السياق واقعيًا. وهذا ما ينطبق تماما على الآية القرآنية، إذ إن للقرآن سياقا واضحًا جدًا، ألا وهو تمجيد “الله”، وضرورة خشيته من قِبل كل الناس. وإذا جئنا بأي من المسلمين، أو حتى غير المسلمين بشرط تعريفهم بالسياق القرآني، وسألنا عن فهمهم للآية، فلن يكون الجواب إلا أن العلماء هم الذين يخاوفون الله. بل حتى لو أخطأ أحدهم عن سهو في إشكال أواخر كلمات الآية عند النطق، فلن يفهم إلّا أن العلماء هم الذين يخافون الله، ذلك لأن السياق هو الذي حدد المعنى وساقنا إلى فهم معين، وليست العلامات الإعرابية هي التي فعلت هذا.
٢- حتى لو درس المتعلّمون في المستوى المبتدئ علامات الإعراب فلن يفهموا الآية في المستوى المبتدئ.
—————————————–
(١) برجاء مطالعة الجزء الثالث “قصة الإعراب” من كتاب أسرار العربية (أنيس، ١٩٦٦)، وكذلك رأي محمد بن المستنير المشهور بقطرب- المتوفى ٢٠٦ ه، أي ما يعادل بدايات القرن التاسع الميلادي- فيما ذكره عبد الرحمن الزَجّاجي في إيضاحه (الزجاجي، ١٩٧٩، ص ص. ٧٠-٧١).
(٢) عندما نقول “ذهبت إلى مساجدَ كثيرةٍ” فعلامات الإعراب لم تضف أي جديد إلى المعنى ذلك لأن “مساجد” تظل مجرورة بعد حرف الجر، و”كثيرة” تظل صفة مجرورة، وسيظل المعنى هو نفسه إذا نطقت أو كتبت بدون علامات إعرابية، أو حتى لو كتبت هكذا “ذهبت إلى مساجدٍ كثيرةٍ”. ومرة أخرى أقول إننا لا نريد أن نتعلم شيئًا بشكل خاطئ، ولكن ينبغي إعادة النظر في كثير من دروس القواعد، والبحث في وظيفيتها، وتوقيت تقديمها للمتعلمين، بل وجدوى تقديمها أصلًا.
(٣) في اللغة الواقعية المكتوبة خصوصًا قد يكون هناك احتمال ضئيل جدًا للبس، ولكنه في رأينا لا يعود إلى علامات الإعراب، بل إلى الشدّات والإشكال الداخلي للمفردة.