الرئيسيةثقافه وفكر حرمقالاتمكتبة الأدب العربي و العالمي

محاضرتي للباحثين والمحاضرين وطلاب الدراسات العليا للناطقين بغيرها عن علم البلاغة ( الجزء الثالث والأخيرالفاطميات من علم البلاغة ) ‏‎البلاغة من الثالث الهجري إلي تأسيس علومها الثلاثة

أجمع الباحثون في تاريخ البلاغة العربية لم تنشأ مكتملة الأبواب والمباحث وإنما نشأت – شأن كل علم في بدايته – مجرد أفكار وملاحظات متناثرة علي هامش العلوم العربية والإسلامية الأخري التي سبقتها إلي الوجود والتي لم تكن بدورها قد تبلورت علي نحو نهائي .
‏‎لقد كانت البلاغة في القرون الغابرة والعهود المندثرة لاتخرج عن كونها مجرد مهارات للإبانة والإفصاح عما يجيش في نفس المتكلم من معان , بحيث يتم توصيلها إلي نفس السامع علي نحو محكم محسن , يبرهن علي ذكاء المتكلم وإدراكه لمتطلبات الموقف , بالإضافة إلي مؤثرات شخصية أخري , تتعلق بشمائل المتكلم وسنه وسمته , وجماله وطول صمته يقول عبد المتعالي الصعيدي : ” إن القبة الحمراء التي كانت تضرب النابغة الذبياني بسوق عكاظ في العصر الجاهلي ليجلس تحتها , ويأتي إليه الشعراء , ويعرض عليه كل منهم شعره ليمز هو بين الحسن الشعر ورديئه , ويختار أفضله لتدل دلالته واضحة علي أن هناك مقاييس معينة كان يختار وفقها أفضل الشعر , وهذا دليل ‘لي أن العرب في الجاهلية قد عرفو البلاغة , ولكن البلاغة الفطرية البسيطة البعيدة عن التقعيد والتعقيد
‏‎ولابد من الإشارة إلي أن البلاغة في بدايتها أطلق عليها اسم البديع ومن هذ المطلق أطلق إبن المعتز علي كتابه اسم البديع بالرغم من أنه تناول فيه مختلف الوان البلاغة من استعارة , وتشبيه , وكناية , وتعريض , بالإضافة إلي الوان البديع , وقد أطلق عليها اسم البيان , ومن البلاغيين الذين أطلقوا عليها هذ الإسم “ابن وهب صاحب كتاب : البرهان في وجوه البيان , وضياء الدين ابن الأثير صاحب كتاب : المثل السائر .
‏‎والبلاغيون أنفسهم قد أقروا هذه التسمية بقولهم : ” إن وجه تسمية الجميع علم البيان يرجع إلي أن معني البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ولاشك أم العلوم الثلاثة – المعاني والبيان والبديع – لها تعلق بالكلام الفصيح المذكور
‏‎ومن أوائل العلماء الذين بحثوا في البلاغة وكتبوا مايتعلق بها في القرن الثالث الهجري أبو عبيدة معمر بن المثني (206هـ) وكان من أئمة الأدب والنقد , الذي حلل في كتابه ( مجاز القرآن ) بلاغة الكثير من آيات القرآن الكريم .
‏‎ثم جاء الجاحظ (225هـ) الذي جمع في كتابه ( البيان والتبيان ) الكثير من البلاغات العرب وتحديدهم لمعني الباغة والفصاحة , إلا تناوله للبلاغة كان بسيطا , وغير منظم ولا معقدا ومن المسائل التي تناولها :
‏‎* الكلام علي صحة مخارج الحروف , ثم العيوب التي سببها اللسان أو الأسنان أو ماقد يصيب الفم من التشوه
‏‎* الكلام علي سلامة اللغة , والصلة بين الألفاظ والعيوب الناجمة من تنافر الحروف
‏‎* الكلام علي الجملة والعلاقة بين المعني واللفظ ثم علي الوضوح والإيجاز والإطناب والملائمة بين الخطبة وموضوعها
‏‎* الكلام علي هيئة الخطيب وإشارات.
‏‎ثم جاء بعده عبدالله بن المعتز ( 296هـ) الخليفة العباسي وألف كتابه ( البديع) فجعل للبديع خمسة أنواع هي : الإستعارة , والتجنيس , والمطابقة ورد الأعجاز علي ماتقدمها , والمذهب الكلامي , وجعل محاسن الكلام في الشعر ثلاثة عشرة : التفانت , والاعتراض , والرجوع وحسن الخروج , وتأكيد المدح بمايشبه الذم , وتجاهل العارف , والهزل الذي يراد به الجد , وحسن التضمين , والتعريض , والكناية , والإفراط في الصفة , وحسن التشبيه , وإعنات الشاعر نفسه في القوافي وحسن الإبتداء , وقد ألفه ليبين أن المحدثين لم يخترعوا البديع وإنما وجد عندالعرب منذ القديم في العصر الجاهلي وفي القرآن الكريم , والعصر الإسلامي .
‏‎ثم جاء بعده قدامة بن جعفر (337هـ) فألف كتابه ( نقد الشعر) وأشار إلي أنه قد ألفه ليكمل النقص في أقسام البيان الذي لاحظ بكتاب الجاحظ البيان والتبيبن .
‏‎وبعده ظهرت دراسات بلاغية لبعض المتكلمين أولهم علي بن عيسي الرماني ( 386هـ) أحد أعلام المعتزلة في عصره والذي ألف كتاب ( النكت في إعجاز القرآن )
‎وقيل : النُكْتَة من الكلام الجملة المُنقَّحة المحذوفة الفضول. يعني معنى النكتة في كتاب إعجاز القرآن الكريم للرماني هو هذا الذي أحضرته لكِ . وكذلك هي اللطيفة المؤثرة في القلب و تطلق على المسائل الحاصلة المؤثرة في القلب / أو المقصود بها الفوائد وقد كتب رسالته هذه جوابا عن سؤال أحدهم وقد طلب إليه تفسير تلك النكت في إجمال وبدون تطويل في الحجاج
‏‎ومن دراسات المتكلمين في البلاغة دراسة أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 406هـ) في كتابه إعجاز القرآن , وهو من أعلام المتكلمين في عصره , أفرد في كتابه هذا جزء تحدث فيه عن البديع بيري هل يمكن أن يعلل الإعجاز القرآني بها أو لايمكن لقد تحدث في هذ القسم عن الإستعارة ,والإرداف , والممثالة , وهو يتفق فيها مع العسكري في التسمية والمطابقة أخذا إياها عن ابن المعتز .
‏‎ومن دراسات القرن الثالث الهجري في البلاغة , دراسة محمد بن أحمد بن طباطباالعلوي الأصبهاني ( ت322هـ) الذي كتابه ( عيار الشعر ) وتحدث فيه عن صناعة الشعر والميزان الذي تقيس فيه بلاغته .
‏‎وفي القرن الرابع الهجري قام البلاغي أبوهلال العسكري (ت 395هـ) بتأليف كتاب الصنعاتين , وقصد بالصنعاتين النثر والشعر , وتناول في كتابه هذا السجع والإزدواج وأدخل فيهما فواصل القرآن خلافا للرماني والباقلاني .
‏‎ثم جاء ابن الرشيق القيرواني ( ت 466هـ) وألف كتاب (العمدة في صناعة الشعر ونقده ) جعله في مائة باب جمع به كل ماقدمه البلاغيون من قبله من البيان والبديع , والمسائل الجديد التي قدمها للبلاغة في باب البديع وهي : نفي الشيء بإيجابه , وقال عنه إنه ضرب من المبالغة , الاطراد , أي ” أن تطرد أسماء أباء الممدوح من غير كلفة كقول الأعشي:
‏‎ أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد وأنت إمرؤ ترجو شبابك وائل

‏‎ثم جاء ابن سنان الخفاجي ( ت 471هـ) وألف كتابه ( سر الفصاحة ) وقد فصل في كتابه هذ الحديث عن الفصاحة فبدأ حديثه عنها ببيان الفرق بينهما وبين البلاغة , وجعل الفصاحة ” خاصة بالألفاظ بينما جعل البلاغة عامة بالألفاظ والمعاني , وبذلك كان كل كلام بليغ فصيحا , ولم يكن كل فصيح بليغا , وقسم الفصاحة إلي فصاحة الكلمة المفردة فذكر شروط فصاحتها , وفصاحة الكلام فتحدث عن شروطه .
‏‎ثم جاء عبد القاهر الجرجاني ( ت471هـ) ووضع نظريتي علم المعاني , وعلم البيان بشكل منظم وواف , والجدير بالذكر أن هذين العلمين لم يطرحا بشكل نظرية محددة الجوانب إلا علي يديه وقد عرض الأولي في : دلائل الإعجاز , والثانية في أسرار البلاغة , وكان بحثه لهذين العلمين بحثا علميا , ونظرته فنية .
‏‎ونراه يقول في موضع من كتابه ( أسرار البلاغة ) : ” وأما التطبيق و الإستعارة وسائر أقسام البديع ” فكأنما يعتبر الإستعارة قسما من أقسام البديع فقد كان يري علوم البلاغة علما واحدا يتشعب أبحاثه إلي أن جاء الزمخشري ( ت538هـ) وتناول في تفسيره ( الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ) جوانب البلاغة , وقيل إنه أول من ميز بين علمي المعاني والبيان , واكتمل عنده هذان علمان , فلم يكن يعده علما قائما بذاته .
‏‎وظهر السكاكي ( 555هـ-626هـ) الذي ألف كتابه ( مفتاح العلوم ) وتحدث في القسم الثالث منه علم المعاني وعلم البيان , وملحقاتها من الفصاحة والبلاغة , والمحسنات اللفظية والمعنوية , التي تقصد لتحسين الكلام ذيلا لهذين العلمين وهي التي خصت بعد ذلك باسم البديع .
‏‎فكل من جاء بعد السكاكي سار علي نهجه ونسج علي منواله لأنها لاتخرج عن كونها ترديدا وتكرار لمادته , فهي محاولات قصد بها الإيضاح والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص , ولاشك أن هذه الشروح والتلخيصات والمظومات تدل علي عناية أصحابها منذ عصر السكاكي ومابعده بالمناقشات العلمية والمماحكات اللفظية دون العناية بتربية الذوق ففقدت البلاغة بذلك هدفها الرئيس .
‏‎مؤسس علم البلاغة :
‏‎لقد بحث في البلاغة العربية الكثير من الدارسين العرب , إلا أن كتبوه فيها لم يكن غير أراء وإشارات لم يرتقوا بها إلي أن تكون فنا قائما بذاته وفق أسس وقواعد محددة علي هديها الأدباء , وتقاس بمقاييسها فنية أدبهم وسر جماله , والذي صاغها فنا له قواعده ومبادئه هو : عبدالقاهر الجرجاني , ولكنه لم يقسم هذ العلم ويبوبه وينظمه , ومن قام بذلك هو السكاكي بعد أن أخذ تلك العلوم عمن سبقه من البلاغيين ثم جاء القزويني ( ت739هـ) فألف في البلاغة كتابين : تلخيص المفتاح , والإيضاح , وقد ألف الإيضاح ليكون كالشرح لتلخيص المفتاح , وجمع فيه الكثير من البحوث البلاغية المفيدة .
‏‎لذلك اختلف الأراء حول الواضع الأول لعلوم البلاغة فقد ذهب ابن خلدون إلي أن السكاكي هوالواضع لها بينما أشار طه حسين إلي أن الجاحظ هو واضع هذ العلوم بينما ذهب جمهور العلماء إلي أن الواضع لها هو عبدالقاهر الجرجاني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق