مقالات

المتنبي من جديد… كيف أعاد علي بن تميم اختراع الدهشة؟

الدكتورة سارا ضاهر

هل انتهى المتنبي؟ سؤال يبدو بسيطًا، لكنه في جوهره يهزّ أسس علاقتنا بالتراث. الدكتور علي بن تميم، المفكر والناقد الإماراتي، لا يكتفي بالرد بـ”لا”، بل يعيد طرح السؤال بصيغة جديدة، أكثر عمقًا وشجاعة: كيف نُعيد المتنبي إلى الحياة؟ كيف نقرأه خارج أقفاص المناهج، بعيدًا عن التكرار والاجترار، وفي قلب اللحظة الثقافية المعاصرة؟ في كتابه الأخير “عيون العجائب فيما أورده أبو الطيب من اختراعات وغرائب”، لا يستعيد بن تميم المتنبي فقط، بل يعيد اكتشافه كما لو أنه يُقرأ للمرة الأولى، من خلال أربعين بيتًا شعريًا اختارها بعناية، ففتح بها نوافذ على فضاءات لغوية وفكرية لم تكن مطروقة بهذا الشكل من قبل.

هذا الكتاب ليس تمرينًا في النقد الأدبي التقليدي، بل مغامرة معرفية تمزج بين الذكاء التأويلي والحسّ الجمالي. القارئ لا يشعر أنه يتلقى محاضرة جامدة، بل يشارك في رحلة اكتشاف، يقوده فيها ناقد عاشق، لا يخفي انبهاره بالمتنبي، لكنه لا يُخضع نفسه لهوى الإعجاب، بل يزن كل بيت بميزان البلاغة والفكر والتاريخ.

وفي ندوة مؤثرة أقيمت خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025، استطاع علي بن تميم أن يأسر الحضور لا بمجرد عرضه للكتاب، بل بما باح به من علاقة شخصية بدأت بينه وبين المتنبي منذ الطفولة. تحدث بن تميم بعينين تلتمعان شغفًا عن اللحظة التي صادف فيها بيتًا شعريًا للمتنبي في كتاب مدرسي يقول فيه: «إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ، فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ». لم تكن مجرد لحظة إعجاب لغوي، بل صدمة جمالية غيّرت مسار حياته، قادته إلى عالم المعاني المركبة، وإلى رحلة لا تنتهي في تفسير المفردة، وتأويل الفكرة، والتساؤل عن اللغة ذاتها. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد المتنبي بالنسبة له شاعرًا فقط، بل أصبح سؤالًا دائمًا عن المعنى، وعن قدرة اللغة على إعادة خلق العالم.

في الكتاب، يكشف بن تميم عن طبقات من المعاني تزدحم في بيت واحد، تتجاور فيها البلاغة مع الفلسفة، والتجربة الفردية مع الشأن الجمعي، واللغة مع الوجود. يرى في المتنبي شاعرًا لا يصنع المجاز من أجل الزينة، بل من أجل الفكر. فالدهشة، كما يصورها، ليست تقنية بلاغية فقط، بل طريقة في إعادة تشكيل العالم. في بيت مثل: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي»، لا يتوقف عند التباهي، بل يسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين اللغة والحس، بين التجلي الشعري والإدراك. كيف يستطيع الشاعر أن يجعل حتى من لا يُبصر، “يرى” أثر الكلمة؟ أليست هذه معجزة لغوية تتجاوز الحواس؟

ما يلفت في “عيون العجائب” هو منهج القراءة الذي يقدمه الكاتب دون أن يفرضه. إنه لا يُملي طريقةً في الفهم، بل يلفت انتباه القارئ إلى كيف يمكن أن يُقرأ النص، فيضيء زوايا قد تبدو مألوفة لكنها تحتمل أعمق التأويلات. يسلط الضوء على ظواهر لغوية تتجاوز الإعجاز التقليدي لتصل إلى حدود الابتكار. فالمتنبي، في هذا التصوّر، ليس شاعرًا فحسب، بل مهندس بلاغي، ومبتكر في المعنى، وصانع للهوية الشعرية العربية الحديثة. يبتكر لغته من جوهر الفكرة لا من الصور الجاهزة، يخلخل المألوف، ويفتح المعنى على احتمالات لا تنتهي.

تميّز هذا العمل أيضًا بلغته الأنيقة المتّزنة: ليست جافة ولا مغرقة في الزينة، بل توازن بين الدقة الفكرية والدفء الإنساني. علي بن تميم لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يقترح مسارًا، ويشارك القارئ في بناء الدهشة. النقد هنا ليس أداة تحليل فقط، بل دعوة إلى إعادة اكتشاف متجددة، قائمة على الحيرة والأسئلة والتأمل، لا على التلقين أو الإعجاب المجرد.

لكن الأهم من كل ذلك أن هذا الكتاب يلبّي حاجة ثقافية ملحّة: حاجتنا إلى إعادة اكتشاف تراثنا لا بوصفه ماضٍ منتهي الصلاحية، بل كمصدر متجدّد للفكر والقوة. “عيون العجائب” لا يعيد المتنبي إلى الواجهة لأنه من عظماء الشعر فحسب، بل لأنه لا يزال قادرًا على مخاطبة أسئلتنا اليوم. في زمن تتعالى فيه الأسئلة عن الهوية، وتُختبر فيه اللغة في معارك التقنية والاستهلاك، نحتاج إلى المتنبي لا كرمز من الماضي، بل كشريك لغوي ووجودي في صناعة المستقبل.

في النهاية، لا يمكن اعتبار هذا الكتاب مجرد إضافة إلى المكتبة النقدية العربية، بل هو مشروع فكري قائم بذاته، يُعيد ترتيب علاقتنا مع المتنبي من جديد، ويجعلنا نراه كما لم نره من قبل: لا شاعرًا خالدًا فحسب، بل دليلاً حيًّا على أن الكلمة، حين تبلغ ذروة وعيها، يمكنها أن تصنع المعجزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق