نشاطات

غابةُ اللَّوْزِ (قصة قصيرة) الحزء الاول والجزء الثاني:

عزت ابو الرب

غابةُ اللَّوْزِ
(قصة قصيرة)
الجزء الأول:
صحِبتُ ذاتَ مساءٍ آذاريٍ أخي تيسير؛ بحثا عن بَيْضِ الحجلِ في سفوحِ وجبالِ قريتِنا الجنوبيةِ. وعلى مسمعِ أمي قال: سنأتي خلةَ “اللوزة”، فقالت أمي: اجلبْ لنا ما تجدُ مِنْ نباتِ الجِعْدَةِ والعكوب؛ وزوَّدَتْنا بكيسٍ حاكَتْهُ مِن بقايا الملابس. انطلقْنا عَبْرَ حاكورتِنا؛ – وكي تَعُفَّ نفسُنا الفتيةُ عن اللوْزِ الشهيِّ المنتشرِ في أذيالِ العمايرِ- أتيْنا لوْزَتَنا العريقةَ التي عَمّرتْ دونَ صفٍ زرعَهُ أجدادُنا، بينَ حدودِ أرضِنا وجيرانِنا في المُصْرارةِ، فقطَفْنا بعضًا من لوْزِها الأخضرِ الفيروزيِّ الهَرِمِ المشوبِ بالإحمضاض، وادَّخَرْنا بعضًا منهُ في جيوبِنا.
سلكنا الطريقَ القبليَّ الممتدَّ بينّ حقولِ المزروعاتِ الشتويةِ التي تتطاولُ عليَّ قامةً وانتصابًا، حتى إنني بالكادِ أرتفعُ قليلًا عن النباتاتِ البريةِ التي تحفُّ جانبِهِ الغربيِّ. ومع هبوبِ مَوْجاتِ الهواءِ الرطبِ توشكُ رؤوسُ تلك الحشائشِ أن تلامسَني، وتقتربُ أكثرَ حين أتجرأُ على جزِّ عِرْقِ “مُرَّارٍ أو خُرْفيشٍ” داكنٍ ريانَ تاقت له نفسي.
تركْنا خَلْفَنا “المَزَفّ”، وعلى امتدادِ الدربِ قطفتُ ما طابَ لي من القُرِّيص، الخسِّ البري، الظَّبَح، الحُمِّيض، السِّلِك، القصيقصة، و”شومر الناس”. ومِنْ حَقْلِ الفولِ البلديِّ على جانبِ الطريقِ عَبَقَتْ روائحُ “الكسبرةِ” البرية، فانعطَفْتُ إلى عرقٍ نَضِرٍ، وقبل أن أضيفه إلى ما جَمَعْتُ قَضَمْتُ فسيلةً منه.
كلُّ ذلك كان يؤخرني عن أخي، ولَمَّا اتسعَتْ المسافةُ بَيْنَنا استحثني للحاقِ به، وعندَ حافَّةِ جُرْفِ الوادي القادم من خلايل “أبو ريشة” الذي اتَّسَعَ هذا العامَ، وقطعَ الطريقَ بشكلٍ لافتٍ وقَفَ؛ فَهَرْوَلْتُ، وانْحَدرْتُ في مجرى الوادي، وعلى عجلٍ صَعَدْتُ الحافةَ الأخرى فانزلَقَتْ قدمي، فأمسكتُ “ببيت حَنْظَلٍ”، وعيني على شتلةِ سِنَّاريا تحرسُها أشواكٌ عَجَزْتُ أمامها، فأدْرَكني تيسيرُ “بموسِ” عَظْمٍ نَوَرِيٍّ صغير، فَجَرَّدَهُ مِنْ أشواكِهِ، وحَزَّهُ بإتقانٍ وناوَلَنِيه.
تأملتُ الواديَ وقد شقَّ حقولَ البطيخِ الوليدةِ الفتيةِ في “المْرَبَّعَة” باتجاهِ “أم الريش” التحتا، ليلتقيَ مع سائرِ الوديانِ القادمةِ من “مراحِ السدرة، جورةِ المصري، جورةِ الدير، خلايلِ الطوابسي، وأم الهوى”، مرورًا “بدير أبوضعيف”، وجنوبِ “بيت قاد”؛ لتتوحدَ جميعًا عند “سدرة النص” على شارعِ جنينَ الرئيسِ، وتندفعَ تحتَ الجسرِ وفوقَهُ أحيانا عَبْرَ مرجِ ابنِ عامرٍ إلى البحرِ الأبيضِ المتوسط.

غابةُ اللَّوْزِ
(قصة قصيرة)
الجزء الثاني:

غادرْنا مَقْسَمَ أراضي “الحجوج/آل الحج حسين” على كلا جانبيِّ الطريقِ القبلي، وصلْنا نهايةَ الدربِ المُنبسط، صعدْنا قليلًا الطريقَ الوعريّ لِسَفحِ الجبلِ المؤدي إلى قريةِ “جَلْقَموس”، فاستقبَلَنا بيرُ “أبو اخْضَيِّر” بأجماتٍ من الخوصلان الزمردي الغامق، وتُفاحِ المَجَنِّ، فاتجه تيسيرُ إلى “بيت خوصلان” عريض الأوراق، واقتَطَعَ منهُ ورقَتَيْنِ، فصنعَ قُمْعًا لي وآخرَ له، ونزلَ بِحَذَرٍ في خَرَزَةِ “طي” البئر، وملأهما، وناولني إياهما وخرج.
صعدنا جنوباً، باتجاه “بير أبوعرة”، وعلى يمينِنا “اعْمارة” أحمد محمد، ومحمد أحمد “أبو صبح”، وعلى يسارنا “اعْمارة” نافع رشاد، فأبناء راغب حمدان. ومن “اعْمارة” حسن أسعد أردْنا أنْ يبدأَ بحثُنا عن المداحي بين الصَّبار”الصبر”، وما إنْ زحزحَ أخي حُزمةَ السِّويدِ عن البابِ وأنا خلفَهُ حتى فوجِئْنا بحَيَوانٍ أشبهَ بالقطِّ، مُمَوَّجِ اللَّوْنِ؛ برتقاليٍ غامقٍ، على بنيٍّ فأسودَ، منفوشِ الشعرِ والذيلِ، يقفُ على رجلَيْهِ، يتهيأُ للقفزِ، فاستبقَهُ تيسيرُ بحجرٍ -وكان راميًا وشديدَ القذف-، فازدادتْ شراستُهُ، وتقَدَّمَ نحْوَنا، واحتدمتِ المواجهةُ؛ فأنا أجمعُ الحجارةَ، وأخي يضربُ فيصيبَ لمدة خلتها طويلة، فانسحبَ مهزومًا، ولاذَ بالفِرار، وسألتُ عن ذاك الحيوانِ فقيلَ لي: إنَّهُ في الغالبِ” سلْعِوَّةُ”.
هدأت نفسي، سكنتْ، واطمأنتْ لزوجيْنِ متقابلينْنِ من البلابل يتبادلانِ التغريدَ على زهرةِ عَوَرْوَرٍ بنفسجية. وبقليلٍ مِنِ التدقيقِ في البحثِ عندَ أطرافِ “الصبر/التين الشوْكيِ” وصلْنا طرفَ خلة اللوزة “اعْمارة” محمد عبد الرحمن، فاتجهَ كلٌ منا صُعوداً في مسارٍ موازٍ للآخر. اندفعتُ بهمةٍ، فلم أتركْ حِضْنَ سِنْسلةٍ ولا شُجيْرةِ كَنْدول، زعرورٍ، ذِرْوٍ”سِرِّيس” وسدرةٍ”دوم”، ولا نبتةِ حصى لبان” /إكليل الجبل، ميرميةٍ ، خردلٍ، سفيريا، وخُوِّيخَةٍ إلا فتشتُ حولَها مستعينًا بعودٍ صغير. كانت العصافيرُ تسبِقُني، وكأنها تشاركُني البحثَ، فأدهشَ لأعشاشِها المنسوجةِ بإتقانٍ وإحكامٍ، وأطربُ لمهاجعِ الأرانبِ والغزلانِ، وأزدادُ همةً وانتشاءً حين أسمعُ قأقأةَ الحجلِ على الصخورِ “والرجوم”/ أكوام الحجارة المنتشرة.
في ظلِّ صخرةٍ أستندُ عليها غيرَ بعيدٍ عن قِمَّةِ “أم خُرِّيمِيِّة”جبلِ عبدِ الخطيب، جلستُ بِحُبورٍ تُهَدْهِدُهُ نسائمُ ربيعيةٌ عَطِرَة، يروحُ شذاها ويجيء. فاستقبلتُ قريتي جلبون، وسرحَ بصري مع الفروجاتِ والمتعرجاتِ بينَ الأعشابِ المزهرةِ المضرجةِ بألوانِ الحشائشِ والأزاهير، ومضى مَعَ لَوْحَةٍ تمتدُّ أمامَها من الحقولِ الزُّمرديةِ الغافية، يلمعُ أديمُها النعناعيُ والياقوتي تحتَ أشعةِ شمسٍ آذاريةٍ نقيَّة، يُغلفُها سديمٌ لؤلؤي، فبدتْ مَلَكِيِّةَ المكانِ والمقامِ تَحُفُّها الوصائفُ، ويحرسُها جَبَلا العجمي وأبو مْدَوَّر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق