كيف تكون الرحلةُ في عالمِ الفوضى؟
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
كلما زاد الطُّغيان أبشِر بالفَرجْ، ولكن!
توقفنا في مقالة الأمس عند نقطة الإخلاص والتجرّد، ففي زمن الفتن واختلاط الحابل بالنابل لا بد للمسلم من أن يكون مدركًا لرسالته بين الناس، وأن يعيش معهم بعيدًا عن الأنانية، وأن يترك الأثر الإيجابي في جميع تصرّفاته في مجتمعه، وأن يكون عمله خالصًا لوجه الله تعالى، ومثْلُ هذه الصفات لا تظهر في الغالب سوى عند من آمن بربه عز وجل فلا عصمة إلا بالإيمان، ولا وقاية إلا بخوف الرحمن، ولا يمكن أن يسير الإنسان في هذا الحقل من الأشواك لما فيه من أهواء النفوس، ووساوس الشياطين، وقرناء السوء، وتسلط الأعداء إلا أن بعصمه الله سبحانه وتعالى وبالتمسّك بكتابه، واعتصامه بسنة رسوله ﷺ.. واما النقطة الأخرى فهي:
– المصارحة والمناصحة
ففي أوقات الأزمات والفِتن لا بد أن تكون المصارحة مبنية على الحقائق والشفافية، وتكون المناصحة بين الناس وفق المصلحة العامة، بمعنى ما يخدم المجتمع الذي يعيش المسلم وسطه، ولقد دعى وبيّن النبي ﷺ قدر وأهميّة النصيحة في دين الله تعالى حين قال: “الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم”، ويدعو هذا الحديث الشريف إلى الوقوف بمسؤولية تامة أمام مجتمع المسلمين فيُبدي المسلم النصيحة أولًا لله عز وجل فيعمل وفق ما أمر به ونهى عنه، وكذلك لرسوله ﷺ بتطبيق منهجه وسنتّه، ولكتابه الذي أنزله الله عز وجل ليكون منهج حياة، وكذلك لأئمة المسلمين فالإمام والرعية واحد في مجتمع المسلمين جميعهم تحت طائلة المسؤولية وجميعهم يعملون لخدمة بعضهم البعض، فالمصلحة المجتمعيّة تتقدم على المصلحة الشخصية لأن الأزمات والفتن تحتاج إلى تكاتف الجهود للتصدي لها، وكلٌ من خلال منصبه وموقعه ومسؤولياته، وأما النصيحة لعامّة المسلمين فتكون بالحسنى واللّين وعن علمٍ ومعرفة، فالجميع يحتاج إلى النصيحة عندما تختلط الأمور وتعصف الفتن، فهل بقيت دائرة تخرج عن هذا الحديث الشريف ولا تشملها النصيحة؟ ولذلك لا بد من التناصح بكل إخلاصٍ وشفافية، وقول الحق بالأسلوب والمنهج الحكيم الذي يحقق المنافع والمقاصد، ولا يؤدي إلى المزيد من الفتن، ولقد تركت مدرسة النبوة إرثًا عظيمًا لنا، وترك الصحابة الكرام مواقف كثيرة لا حصر لها، وجميعها بُنِيت على تقديم مصلحة المجتمع على المصلحة الفردية وقاموا بتطبيق هذا المنهج في تفاصيل حياتهم، وصاروا مع الحق وعاشوا بكل شفافية وصدق خاصة في المواقف العصيبة وبكل أدبٍ واحترام والتزام، وبكل حكمةٍ واقتدار، وكانوا يضعون الأمور في نصابها، وغزوة الأحزاب كانت مثالا حيًا حيث كانت من أعظم الشدائد، ومحنة من أقسى المحن، فأدار رسولنا الكريم وصحابته الكرام المعركة بكل اقتدار وحكمة مع شدة الخوف والجوع وظروف المدينة التي كان للمنافقين وغير المسلمين صولة وجولة فيها، وكان الرسول الكريم على استعدادٍ تام أن يقوم بأي شيء يمكن أن يخفف عن أصحابه، فأراد مقترحاً وهو: أن يعطي لغطفان ثلث ثمار المدينة حتى ترجع عن الأحزاب، ويتفكك هذا الجمع الغفير من الأعداء، فسأل واستشار السعدين؛ سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فماذا قالا بكل الأدب وبكل الفقه؟ قالا: أوَحيٌ يا رسول الله أم أمر تراه لنا؛ -أي: إن كان وحياً فهو موضع التسليم لا اعتراض ولا رأي ولا نقاش، فذلك الذي تخضع له الرقاب، وتمتثل له الأمة المسلمة، وأما إن كان رأياً تراه لنا قلنا الرأي، قال: “بل رأي أراه لكم” فصدقوه القول وصارحوه وقالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء في جاهلية وكفر، وهم لا يطمعون منا بتمرة إلا بشراء أو قِرى، أفبعد أن أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم ثمارنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف، فأخذ النبي ﷺ برأيهم ومشورتهم.. واما المزيد ففي مقالة الغد بمشيئة الله تعالى
– مقالة رقم: (1578)
11. شوال. 1445 هـ
صباحكم طيب، ونهاركم سعيد
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)