اخبار الفنمقالات
البركان”.. حمم الدراما السورية عام 1989
أكثر من ثلاثة عقود مرت على إنتاج المسلسل السوري “البركان” وعرضه، من بطولة رشيد عساف وصباح عبيد وعبد الهادي صباغ، وإخراج محمد عزيزية وتأليف هاني السعدي. ولأنني أنتمي إلى ذيل جيل X، بحسب تقسيمات علم الاجتماع الحديثة؛ فإن هذا المسلسل هو جزء ثمين من ذكريات الطفولة.
بعيداً عن الحنين، واقتراباً من الأفكار العميقة في العمل، ما زلت أشاهد مقاطع محددة منه إلى يومنا هذا، لا لشيء إلا لراهنيته التي ما زالت تعمل ولم تفقد صلاحيتها، ما دمنا نعيش ظروف الهيمنة نفسها؛ فإذا كان المسلسل السوري يتحدث عن هيمنة إمبراطورية الروم على القبائل العربية، فليس بعيداً منطق الهيمنة الأميركية على الدول العربية.
“ورد” شخصية المسلسل الرئيسية، التي أدّاها الممثل السوري المبدع، رشيد عساف، هي الشخصية المنبوذة في قبيلة “الجنادب”؛ ينظر أفراد القبيلة إلى صاحبها كشخص متفلسف ومهرطق، ولكن في كلامه من الحكمة ما يلفت الانتباه، ويفك عقدة الأحداث.
يتعرض “ورد” لمختلف أشكال الإذلال في القبيلة الذليلة، ويفضّل إخفاء مهاراته في القتال والمواجهة عن أفرادها، ويختار تصدير صورة الفرد الضعيف، إلا أن كلماته بقيت عاجزة عن تورية حكمته، ليؤخذ برأيه في القبيلة بين أزمة وأخرى.
قبيلة “الجنادب” التي ينتمي إليها “ورد” تتعرض لغزوات الروم بشكل مستمر، حتى بدأت في تسليم حلالها وثرواتها الشحيحة من دون قتال، كل ذلك رسم فوضى المشاهد المؤلمة في نفس “ورد”، الذي خطط للحظة يقود فيها القبيلة إلى التحرر والقوة… كان ذلك البركان الأول.
يموت سيد القبيلة الضعيف في ظروف غامضة، فينبري كهلة القبيلة للمنافسة على ملء المنصب الفارغ، ولأن لكل واحد منهم ابناً يمكن الرهان عليه؛ يقترح “ورد” أن يكون سيد القبيلة شاباً.
يقترح “ورد” إجراء منافسة في ركوب الخيل واستخدام الرمح والسيف بين شباب القبيلة، ليكون سيد القبيلة الجديد هو الفائز بينهم..
ينظم “ورد” المنافسة ولا يشترك فيها باعتباره الشخصية الحكيمة، ولكن “الضعيفة” جسدياً، التي لا تحظى بفرصة كبيرة للفوز..
الغضنفر (صباح عبيد)، الشخصية القوية جسدياً والانفعالية ومعدومة التخطيط والحكمة هو الشخصية الأوفر حظاً في المنافسة. تُجرى المنافسة النهائية بين الغضنفر والمنذر (صديق ورد المقرّب)، ويُهزم فيها المنذر ليعلن الغضنفر سيداً للقبيلة.
بحسب قانون المنافسة المتفق عليه، يجب على الغضنفر أن يفرغ من الراغبين في نزاله من أفراد القبيلة، وإلا لن يقبلوا به سيداً. يتصدى “ورد” في “لحظة كاريكاتورية” له، يسخر أفراد القبيلة من جنون الخطوة، إذ كيف للجسد الهزيل أن ينتصر على فارس القبيلة الأول!
وبعد قبول الغضنفر المنازلة، يكون ما كان لتتفجر الكرة الملتهبة الأولى من البركان، وينتصر “ورد” في كل مسارات المنافسة المقترحة، ويتسيّد القبيلة.
هو مشهد كاف لمقاربة القوى الكامنة الخفية في بطن مجتمعاتنا التي تكون الأحق في القيادة، ولا يلتفت إليها أحد، إلا في ميدان المنافسة النزيهة!
في لحظة الوصول إلى سيادة القبيلة، يتخذ “ورد” الخطوات الأولى في اتجاه تحويل “الجنادب ” إلى “صقور”، ويستهلها برفضه السكن في خيمة سيد القبيلة المتوفّى، لا لشيء إلا لكي يبقى مشتعلاً من موقعه في خيمته الصغيرة والمتواضعة، هو ببساطة يحاول تجنب مغريات السلطة، والظروف التي قد تطفئ رغبته الجامحة في تغيير ظروف القبيلة، هو يبحث عن سيادة القبيلة لتغييرها وليس لسيادتها.
في مقاربة بسيطة مع القادة الذين غيّروا ولم يتغيروا، يبرز اسم هوغو تشافيز القادم من طفولة الكوخ الطيني، والذي لم يلتفت إلى مظاهر الرفاهية الفجّة المتاحة له بسهولة في بلد نفطي، ولكن بضريبة الاستغناء عن المشروع والكرامة. على سكة مشابهة، سارت شخصية خامنئي في إيران، الذي بعد إنهاء مدة رئاسته عام 1989م كان يستعد للعودة إلى شقته المتواضعة، وكذلك سارت شخصية عبد الناصر التي لم تترك سوى مئات من الجنيهات قبل الرحيل المؤلم!
في خطوات لاحقة، يبدأ “ورد” في تدريب الشباب وتصنيع السيوف داخل القبيلة (من السيوف إلى الطائرات والمناورات المشتركة اليوم، أليست المناورات المشتركة التي ترعاها الأحلاف المزورة مذلّة إلى حد لا يطاق؟ ألا تبدو كاريكاتورية عقود السلاح الذي لا نجيد استخدامه؟ إن هذه المشاهد ضعيفة فعلاً إذا ما قورنت باليمنيين الذين يصنعون أسلحتهم بأنفسهم، ولو كانت أقل كمّاً وفعالية).
يبدأ “ورد” في غزو ثغور الروم، ضمن الإمكانات المتاحة، وتحديد حجم الهدف بحسب معيار القوة الذي وصلت إليه القبيلة. بدأ ضرباته وفرسانه ملثمون، كي لا يتعرف إليهم أحد، ووصل في نهاية المطاف إلى كشف اللثام عن وجوههم في هجوم صريح على القبائل التي تحميها إمبراطورية الروم.
(في بلداننا، يُحِب الناس المعارك الانفعالية والكبيرة، ولو من دون تحضير، ربما لأن الخطابة تشكل عنصراً مهيمناً في ثقافتنا.. نحن لم نجرّب كثيراً المعارك المتدرجة المتناسبة مع حجم القوة التي وصلنا إليها، ولم نجرّب معنى التراكم الطويل الأجل في القوة، يمكن القول إن تجربة حزب الله هي التجربة الأوضح في هذا البناء التراكمي للقوة، فمن ضربات الكاتيوشا التي بدأت عام 1992م إلى التهديد المصور بدقة لمنصّات الغاز).
ولأن من “لا يحب لا يقوى على حمل السلاح”، يخصص “ورد” استراحة محارب ليطلب العفراء (واحة الراهب) من قبيلة الحارث زوجة له، بعد أن نبذته قبيلتها وطردته، ليعود في طلبها على رأس جيش، لم يكن ينوي القتال به، ولكن ليقول لقد عدت هذه المرة قوياً!
تصبح الخطبة التي أنجزت بعد مبارزة مع أقوى فرسان القبيلة مناسبة لضمّ قبيلة الحارث إلى مشروع المواجهة، لتتحول بعدها القبيلة القوية الناشئة (الجنادب سابقاً) إلى نقطة استقطاب للقبائل العربية للتخلص من سطوة إمبراطورية الروم والقبائل التابعة لها.
(واحدة من إشكاليات الوحدة في منطقتنا هي الإصرار على الحوار المسبق بشأنها إلى حين إنجازها، بينما تعمل الوحدة أحياناً بمنطق “المثال الجيد”، أي أن المنطقة بحاجة إلى تجربة نجاح واحدة لتلتف حولها الجهات الطامحة في التغيير، هكذا عملت تجربة عبد الناصر نسبياً، وهكذا عملت تجربة بسمارك في توحيد الولايات الألمانية، وهكذا عملت كوبا في أميركا اللاتينية).
في مسلسل “البركان” مشاهد وأحداث تصلح كبنود لخطة شاملة في التنمية والنهضة وفك التبعية، باستخدام مثال صغير للغاية “القبيلة”.
فالتنمية لا تنجح بالاعتماد الكامل على شراء السلاح، ولا تنجح دفعة واحدة، ولا تنجح مع انشغال كامل في الخلافات الداخلية..
في فرصة تاريخية، يلتقي “ورد” إمبراطور الروم، ويحذر في انتقاء الكلمات معه، لتكون المعركة الكبرى بتوقيته هو وليس بتوقيت الإمبراطور.
مسلسل “البركان” المنتج بأدوات بسيطة للغاية، يحمل محتوى عميقاً لا تحمله الكثير من المسلسلات المنتجة بالكاميرات عالية الدقة، وتقنيات المونتاج المتطورة.