مقالات
رحلة التهجيرالأولى: حيفا…عكا… الناصرة… العفولة…زرعين… جنين… قباطية /الجزء الثاني:
الحثناوي..1/6/1930م. الحاج محمود صالح محمد حسن حثناوي"أبو بشار" / بقلم عزت ابو الرب
اشتد تضييق العصابات الصهيونية على الناس، واستهدفوا عشرات القرى بالقتل والهدم، فانتشرت أخبار المجازر المروِّعة، فأخذ الناس يفرون على غير هدى، ولم تكن الطرق البرية آمنة؛ إذ يسيطر عليها جيش الإنتداب البريطاني، وعصابات اليهود. ليس أمامنا إلا القوارب لمغادرة حيفا عبر البحر باتجاه عكا. ومع كل ما يحمله القارب من مخاطر، ركبنا البحر رجالاً ونساءً وأطفالاً(300- 400) شخصاً، فتبعتنا المدفعية اليهودية، وتعرضنا للغرق، ولكن الله سلّم.
وصلنا عكا، فقيل لنا: يوجد قافلة متجهة إلى الناصرة، فانضممنا إليها، وإذ ( 20- 30) باص وشاحنة متجهة من الناصرة إلى العفولة وجنين. انطلقت القافلة من الناصرة يتقدمها دبابة إنكليزية، وتأخرت خلفها أخرى. ولما وصلنا بالقرب من المطحنة جنوب العفولة باتجاه جنين، وإذ بعدد كبير من اليهود المسلحين منتشرين ومستحكمين غرب وشرق الطريق، فعادت الدبابتان الإنكليزيتان، وتركت القافلة بين يدي العصابات اليهودية. فأخذت نقطة التفتيش على الشارع، بإنزال ركاب الباص الأول، وأمرتهم بإخراج ما لديهم من أموال ومصاغ ومجوهرات وأدوات ثمينة، ووضعها على بطانية قربهم. وفعلوا مثل ذلك في ركاب الباص الثاني. وبينما هم كذلك إذ جاءت دورية عسكرية تعرف بعسكر”أبو إحنيتش”،- لها معسكرات خاصة بهم، و مخيمهم شرق العفولة، طريق شطة، وهي ذات نفوذ وسلطة على اليهود والإنكليز أنفسهم-، فقالوا لليهود: ماذا تفعلون؟ ومالِ هؤلاء؟ قالوا: نفتشهم، حتى لا يكون معهم سلاح. فقالوا لهم: هؤلاء هاربون من الحرب والقتل، ويأتون الطريق الرئيس، ويحملون السلاح! وقالوا للركاب: فليأخذ كل واحد منكم ما أخذ منه، وعودوا إلى باصاتكم، وخلصونا من أيدي العصابات الصهيونية، وساروا معنا حتى خرجنا من العفولة، وصرنا في مأمنٍ وسلام. فلحقت بنا الدبابتان الإنكليزيتان، وسارتا كسابق عهدها؛ لتوهم من يرى أنهم يقومون بحماية المواطنين.
وبالقرب زرعين، استوقفتنا نقطة لجيش الإنقاذ، معظمهم سوريون من دير الزور، كانت قد شاركت بصد هجوم العصابات الصهيونية القادمة من جهة صندلة إلى زرعين، ومعها البلطات والسواطير والسكاكين وغيرها من أدوات القتل، وقد عثر عليها الناس صباحاً في السهل بعد أن فشل الهجوم، وتكبّد اليهود خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. وللتحقق من هويتنا سألونا: من مختار زرعين؟ فقلنا: الحاج عبدالله الشلبي؛ فسمحوا لنا بدخول البلد، فوجدنا أن 75% من الناس قد رحلوا، وتركوا ديارهم بكل ما فيها بعد قصف متوال بأنواع الأسلحة المختلفة والطائرات، واستمر القصف على القرية حتى فر الباقون. وخلال وجودنا وتمسكنا بقريتنا، تزوج أخي حسن من ابنة عمنا، وكان المهر بمئة جنيه، فإكراماً لعمنا وابنته؛ دفعنا (500) جنيه فلسطيني مهراً لها.
وفي الدلعونا يؤكدون ذلك فيقولون:
على دلعونا يا مدلعنية*** المرة بليرة والبنت بميه
أنفقنا للعرس معظم ما جمعنا، فعدنا كم ذهبنا إلى حيفا، لا نلوي إلا على القليل. خرجنا كآخر فوجٍ من زرعين، توجهنا إلى قباطية للعمل بالفلاحة، وكان موسم تعشيب سمسم، فخرجنا فجراً في يومنا الأول للعمل، وعند الساعة العاشرة ضحىً، سأل أخي حسن (العريس) صاحب العمل: متى ينتهي يوم العمل؟ قال: العصر، فقال: كم ستعطينا؟ فقال: عشرة قروش، فقال له: خذ مني عشرة قروش، ومع السلامة. وترك العمل من فوره، وذهب إلى جنين، فاستقر فيها، وفتح دكاناً في السيباط.
أخذنا نعمل في الفلاحة، وبدأ عامنا الأول عند مزارع مقابل(12) كيل قمح سنويا؛ أي 864كغم، وكانت سنتنا (14)شهرا، فزادت شهرين؛ لأننا بدأنا بالعمل معه مجاناً من موسم السمسم، وما فيه من كتّ، وعمل كبابير للشيد، وتنظيف للدواب، ومع ذلك جاء عام 1949م محلاً، فكان نصيبنا السنوي (ستة) أكيال ذرة، لا يزيد سعر الكيل الواحد عن40قرشا.
وخلال تلك الفترة اشتريت حماراً ، وفصّلت خرجاً وسحاحير، وأخذت أشتري وأبيع في المواسم: التوت وكوسا المحاشي، وكانت لا تستخدمه قباطية. وعند المقاهي والحارات أنادي واقول:
يلا كوسا ويلا توت*** ورماك الهوي ياتوت…
وهكذا حتى استنفد ما لدي. وفي موسم الخيار الربيعي، كنت أذهب إلى عتيل وأشتري خيارا وأبيعه في قباطية.
أربع سنوات من العمل الشاق(1948م-1951م)، كنا نذهب قبل طلوع الفجر لأعمال الفلاحة. وذات صباحٍ، أردت الوضوء من أحدِ الضحاضيح، فكسرت الطبقة المائية المتجمدة على وجهه، وتوضأت، وقلت مناجياً الله: ” يا رب، فرِّج علينا، أنت ترى، وتسمع، لا أكل، ولا راحة، فارحمنا، ولك عليّ عهد بالإلتزام، والإستقامة، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وإن حِدْتُ عن الطريق فاعمل بي ما شئت”.
كان موسمنا لعام 1951م مباركاً خصباً، ولما رأى معلمنا ما نحن فيه من جِد؛ اقترح علينا أن نُعمِّر على النصف جبلاً له مساحته مئتا دونم في وادي صياح. لم نتردد بالقبول، وشرعنا بتنظيف الأرض من النباتات والأشجار البرية، وتعزيلها من الحجارة والصخور، ومعنا نساءٌ يعملن بأجر يومي للقيام ببعض الأعمال ، فأنجزنا الجزء الأول من الإعمار، وقد دفعنا ما حصلنا عليه من الموسم السابق، فعدنا كما بدأنا.