مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام)
* دور الإعلام في تأجيج الخلافات أو تهذيبها (7)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:-
في زمنٍ تُدار فيه المعارك الفكرية والفقهية على الشاشات وصفحات التواصل أكثر من حلقات العلم ودوائر الاجتهاد، يصبح السؤال مُلحًا: هل الإعلام أداة إصلاح تُهذِّب الخلافات، أم وَقود فتنة يُؤجّجها ويؤبدها؟
– لقد تغيّر وجه الخلاف في عالمنا الحديث، ليس في جوهره، بل في طريقته وأدواته، فبينما كان العلماء يختلفون في محراب المسجد، ويطوّقهم الأدب والورع، بات الإعلام يسوق الخلاف سوقًا مُخِلًّا، يسلخُه من أصوله العلمية، ويقدّمه مادةً مثيرة تفتقر إلى المساحة والعمق.
– إن الإعلام، بحكم تأثيره الجماهيري، قادر على أن يُغيّر طبيعة الخلاف من “اختلافٍ تُرجى فيه الرحمة”، إلى “نزاعٍ يُخشى منه الفتنة”، فهو لا يكتفي بعرض الرأي، بل يُضيف إليه ما يشعل النيران حوله: لغة مستفزة، عناوين ملتهبة، انتقائية متعمدة، ومقارنات تفتقر لدإلى أدنى درجات العدل، وهنا، يكمن الخطر الأكبر: تحويل الرأي المخالف إلى “عدو”، وتحويل المسائل الاجتهادية إلى ساحات تصفية حسابات، بين فلان وعلّان، ولفرد العضلات..
– وللعلم هذه ظاهرة ليست عبثية أو عارضة، بل خلفها تصوّرات إعلامية تُعلي من قيمة “الجدل” على حساب “الحقيقة”، وترى في الضجيج مادةً للتفاعل، لا سببًا للتوقف، ومن ثم، أصبح بعض الإعلام شريكًا في خلق أزمات، لا في معالجتها، يسوّق خطاب الكراهية تحت لافتة “حرية التعبير”، ويُبرز السُذّج والجهلة، ويهمّش الحكماء والعقلاء.
– لكن، لا ينبغي أن يُفهم من ذلك أن الإعلام شرٌّ مطلق، فكما أن الإعلام قادر على التأجيج، فهو قادر – وبنفس القوة – على التهذيب والبناء، الإعلام الذي يتحلى بالأمانة، ويُحسن فهم طبيعة الخلاف في الإسلام، يعلم أن دوره ليس الوقوف على طرف النزاع، بل بناء الجسور بين المختلفين، يعلم أن الإسلام علّمنا كيف نختلف دون أن نتحول إلى خصوم، قال الإمام الشافعي: “ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه”، وهذا الخُلُق لا يعيش في بيئة إعلامية صاخبة، بل في بيئة تهذيبية راقية.
– لقد رسّخ الإسلام أدبًا رفيعًا في إدارة الخلاف، فهل يُعقل أن ينقله الإعلام إلى السوقية والتجريح؟
هل من الأمانة أن تُستخرج فتوى من سياقها، أو أن يُبتسر قول عالِم ليوظّف في معركة لا يعلم عنها شيئًا؟
أليس من الإنصاف أن نعرض الخلاف كما هو، بدلًا من أن نُشوّهه لننتصر لرأي أو نُشهّر بمخالف؟
– إن الإعلام المسؤول لا يُخفي الخلاف، بل يُضيء جوانبه ويكشف جذوره ويوضح آدابه، ويحرص أن يبني في الناس عقلية “الفهم” لا عقلية “التحزب”.
الإعلام المهذّب لا يُعلي من صوت التراشق، بل من صوت التراحم، يعرض الفكرة دون تحريض، ويُمهّد لسؤال الحقيقة دون تلويث الطريق إليها.
– ولذلك فإننا في حاجة ماسّة إلى إعلام التبصير لا التهييج، إعلام يُعلّم الناس كيف يختلفون دون أن يتدابروا أو يتناحروا، إعلام يذكّر بأن الخلاف سنة كونية، لكنّ الفتنة ليست قدَرًا لا مفرّ منه.
– وإذا كان الإعلام اليوم هو المنبر الأوسع والأبلغ، فإن مسؤوليته أعظم، ووزره أكبر إن خان أمانته، أو ساهم في تمزيق الأمة باسم التنوير أو الجدل أو حتى “الإصلاح”.
– فليكن هذا الإعلام صوت العقل، لا صدى الغضب. وليكن كما أراده الإسلام: شاهدًا بالحق، ناطقًا بالعدل، حافظًا لوحدة الصف، مهذّبًا لنقاش الاختلاف، لا سببا في تمزيق الصّف وتشتيت الجهود وبعثرة العلم..ولذلك هو يحتاج الى رجال الحق ضالتهم، والحقيقة غايتهم، والحديث أخوتي أخواتي يطول حول هذه القضية..
• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “عصر وسائل التواصل: هل فقدنا أدب الخلاف؟”
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1925)
* 10. شوال . 1446 هـ
* الثلاثاء. 08.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)