مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام)

* عصر وسائل التواصل: هل فقدنا أدب الخلاف؟ (8)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

– في زحمة هذا العصر الرقمي، وفي غمرة ما تُفيض به الشاشات من آراء واجتهادات، يلوح سؤال كبير يفرض نفسه بإلحاح: هل ما زلنا نملك أدب الخلاف؟ أم أن وسائل التواصل الحديثة قد سلبتنا روح الحوار، وأغرقتنا في لجّةٍ من الخصومات التي لا تهدأ؟
– لقد أسّس الإسلام منذ فجره الأوّل ثقافةً فريدة في إدارة الخلاف، قوامها احترام الرأي، والاحتفاء بالتعدد، والبحث عن الحق لا الانتصار للنفس، وحين نُقل عن الإمام الشافعي قوله المشهور: “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”، فإنه لم يكن يتحدث عن خُلق شخصي، بل عن روح حضارة كاملة ترى في الخلاف ميدانًا للارتقاء لا مَقتلةً للخصومة.
لكننا اليوم، وفي فضاء افتراضي يزدحم بالمنابر والانفعالات، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ مناقضٍ تمامًا: سُعار في الردود، سخرية في الطرح، تقزيمٌ للمخالف، وانتصارٌ متوحّش للذات، لقد حوّلتنا “التعليقات” و”التغريدات” إلى جنود في معارك لا تُبقي ولا تذر، فأين ذهب أدب الخلاف؟ وهل ضاع وسط زحمة الهاشتاغات وتيارات الرأي؟
– إن الإشكال لا يكمن في الوسائل ذاتها، فوسائل التواصل ليست شرًّا محضًا، بل أدوات قابلة للتوظيف في الخير والشر، في البناء والهدم، غير أن ما فاقم المأساة هو غياب التربية الفكرية التي تُمكّن الإنسان من أن يختلف بأدب، ويعارض بحجة، ويناقش برويّة، وهنا تظهر الأزمة: ليس في اختلافنا، بل في كيفية إدارة هذا الاختلاف.
– لقد أصبح الاختلاف اليوم مشروع فرقة وفِتنة لا مشروع فقه؛ واختلط فيه الحق بالهوى، والعلم بالتعصب، والغيرة على الدين بالتكفير للمخالف، والأسوأ من ذلك، أن منابر التواصل قد أسهمت في صناعة رموز يجهلون فقه الخلاف، ويتصدّرون للفتوى والرأي بلا زاد من علم ولا خلق.
– أليس من المحزن أن نرى شبابًا يتقاذفون بالتهم والشتائم في قضايا اجتهادية، بينما كان كبار الصحابة يختلفون في الفروع، ثم يخرجون من المسجد كأن شيئًا لم يكن؟ أليس مؤلمًا أن يتحوّل الخلاف في تأويل حديث أو فهم آية إلى معركة وجودية تُفقد الناس إيمانهم بالأخوة؟
– والحق أن هذه الفوضى الرقمية تستدعي وقفة تأمل وإصلاح، لأن غياب أدب الخلاف لا يُفسد الحوار فقط، بل يُفسد القلوب، ويهدم الجسور بين الناس، ويُظهر الدين في صورة التنازع والتناحر، وهو الذي جاء رحمة وسلامًا. قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: 105].
– إننا اليوم بحاجة ماسّة إلى إعادة إحياء فقه الاختلاف، وتعليمه للأجيال القادمة، وربطه بجذوره في السيرة والسُّنّة، وتدريب النفوس على الخروج من دائرة “الانتصار للذات” إلى “الحرص على الحق”، وليكن شعارنا في هذا العصر: أن نختلف كما اختلفوا، لا كما افترقنا.
* الخلاصة
لم نفقد أدب الخلاف لأن الوسائل تغيّرت، بل لأن النفوس قد تخلّت عن ضوابطها، والعقول نسيت قواعدها، والقلوب غفلت عن مقاصدها، فلنُعِد للنفوس توازنها، وللخلاف أدبه، وللأمة وحدتها، عسى أن نرتقي كما ارتقى الأوّلون.. ولكم مني التحية والسلام

• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: ” نحو ثقافة خلاف بنّاء: خطوات عملية ”
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1926)
* 11. شوال . 1446 هـ
* ألأربعاء. 09.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق