إنّهُ السهلُ الأجملُ في العالم، مثلثٌ يمتد من جنين إلى طبريا شرقاً، وحيفا غرباً، يتربع على مساحةِ 351كم مربع، ينعمُ بالندي طوال العام تقريبا، فيجود بالنبات والأزهار والثمارِ، ولا يبخل بأطايبِ العبير صباح مساء. وتحت قبة سماء صيفه المتلألئة يطيب السمر والسهر، والنسائم تهفو وتغفو من حولك، ينام على إيقاعها البعضُ، ويسهر مع أوتارها آخرون. بكلِ فصلٍ له سرٌ وسحر. لمعَ طَيْفُهُ الصيفي المتوهج أمامَ عيني قبل خمسين عاماً ويزيد، في طريقي من جلبون إلى جنين على حصاننا الأشهب المطواعِ بصحبة أخي الكبير تيسير. وما إن أشرفنا عليه في “بيت قاد” حتى امتد أمامنا غرباً –وعلى مدِّ البصر-حتى حيفا، سهلٌ موشحٌ بعضُه بخضرة “لِبْش/بيوت” البطيخ الفاتحة، تحتضنُ “جِرارَ” البطيخ البلدي”الجَدّوعي” ببزرته الكبيرة البيضاء المكحلة بالسواد. ويسبق البعضَ الآخرَ عبيرُ الشمامِ البرتقالي الطويلِ إلى أنفاسك قبل أن تراه. مرج يموج بالحياة، واحةٌ من الذهب الأصفر المتهالك السنابل إذعاناً لسلطان الصيف، وأخرى من حقولِ السمسم الأخضرِ اليانع الشامخ وسط المرج غير آبهٍ بالحرِّ والقيْظ. مزرعةٌ هنا، وبيارةٌ هناك، ودروبٌ تحجزُ بينها، تحفّها الحشائشُ وأشجارُ العنبرِ والعُلِّيقِ والخِرْوِع، وبالكادِ يمرُّ منها العابرُ بنفسهِ ودابته، ومن علٍ تطلُ بقايا نخل تنظرُ المكانَ، وترقب عن كثب الفلاحين والفلاحات. كان المرجُ مصدراً للبقوليات والخضراوات والحبوب بأنواعها المختلفة، ولبطيخ وحمضياتِ جنين شهرةٌ تعدت دولَ الجوار. حقاً إنهُ باب عَيْشٍ ورزقٍ شريف، يكفيك ولا يغنيك.
سقى اللهُ أيامَ المرجِ حينَ كان سلةَ غذاءِ فلسطين، تنساب إلى حقولِهِ صافيةً رقراقةً “عيْن نينا” و”عيْن شْريف”، تمخُرُ السوقَ مروراً بالجامع الصغير، ومقهى أكرم وسط المدينة، قبل أن تنضمَ إلى نهر المُقَطّعِ المنحدر غربا إلى حيفا، شامة البحر الأبيضِ المتوسط.
أتحسّر كثيراً على ما جرى للمرج وما يجري له، بصعوبةٍ كنّا نرى ترابه الأحمر الخمري عدا أيام الشتاء، فهو مكسوٌ بالخضرة وسبائك الذهب. والآن غدا مثقلاً بـِرُجْمٍ هنا، ورجم هناك، أكوامُ حجارةٍ أتت على المرج، بناياتٌ وعماراتٌ ومحالٌ تجاريةٌ وأسواقٌ سلبتْ المرجَ نضارته، وأتتْ على قوت الناس الضروري الذي لا غنى عنه.
فمن الذي تجرأ على المرج وسمح بالبناء فيه!؟ مَنْ المسئول، أهي البلديات والحكم المحلي؟ أم سلطة الأراضي ووزارة الإسكان، ووزارة الزراعة؟ ألم يحنِ الأوانُ لوقف هذا التصحر البنياني في مرج ابن عامر، واستنقاذِ ما يمكن من الأرض الزراعية؟ سألت أحد الإخوة من الناصرة عن حال المرج عندهم فقال: كما هو، لا حجر بناءٍ واحدٍ فيه. ألسنا أحوجَ للأراضي الزراعيةِ والحفاظِ عليها؟