نشاطات
ملامح التحوّلات في عملية الإبداع: ارتقاء الشّعرية القديمة إلى ذرى جمالية وتعبيريّة لطفي العبيدي
إنّنا نستمد من المخزون الحضاري جدواه في تنظيم التفكير وفي تأسيس مقوّمات الفهم ومطالبه تجديدا للعقل العربي الإسلامي وعملا على تحديثه، ونشر الفهم القائم على القول بقدرة أنموذجنا الثقافي والحضاري في أن يستأنف دوره الممكن والمتحقّق تاريخيّا ووثائقيّا، وفق رؤية نظاميّة تنحكم بمطالب التّمحيص والعقلانيّة النقديّة، في تتبّع فعل الإبداع المعرفي وتمثيليّة البناء الثقافي.
ويمكن أن نتّفق على أنّ هذه الرؤية نظامية تسعى إلى فهم طبيعة تكوين الثقافة العربية الإسلامية بمكوّناتها المختلفة (أدبا ـ فلسفة- علوما ـ فقها- تشريعا…) والتي قامت على إنتاج تنظيم معرفي يعتمد على مفهومي الاسترسال والتراكم، وكذلك التّواصل، على عكس الثقافة الغربية التي تعتمد القطيعة المعرفية (فوكو ـ هوسرل- دريدا …). وإنّ فهم البناء الثقافي العربي الإسلامي غرضه إنتاج مرجعية أخلاقية إسلامية (العودة إلى الأمة) وإحياء المشروع الثّقافي والعلمي، رغبة في بناء الاستئناف الحضاري الحاصل تاريخيّا ووثائقيّا .
وبالنظر في تاريخ الأدب العربي، باعتباره أحد أهم مكوّنات الثّقافة العربية الإسلامية، نرصد ملامح تحوّلات في عملية الإبداع الشعري وما يرافقها من شعريّة الشاعر وجودة كتاباته وأدبيته ارتباطا بالسنّة الثقافية، وتغيّر أحوال الاجتماع الإنساني، من جهة فهم يرى أنّ الانتاج المعرفي والعلمي، لا ينفكّ عن السّياقات الاجتماعية والثقافية، وعن الانتقال الحضاري من طور إلى طور تأثيرا وتأثّرا، تمييزا بين المرحلة التكوينية والمرحلة الإنجازية. فقد أوكلت للشّعر العربي منذ القديم مهمّة ثقيلة تمثّلت في كونه «ديوان العرب» وهو وإن اُعتبر في أغلبه شعرا غنائيّا يتغنّى فيه الشّاعر بعواطفه ومشاعره الفردية، من حبّ ومدح ورثاء وفخر وهجاء… فإنّه كان جامع علومهم وجراب معرفتهم للدّفاع عن مصالح القبيلة والذّود عنها باعتبارها شكلا من أشكال الاجتماع الإنساني ما قبل الدّولة (الأطر التعاقديّة الحديثة)، ومع الوظيفة التي أسندت إليه وتتمثّل في تخليد سنّة ثقافية وخطاب نقدي وفنّي يضمن استمراره، اعتمد الشّعر الجاهلي على مبدأ التنقيح والمراجعة والسّقف والتّمحيل، ما أنتج أنموذجا جماليّا، كان على الشّاعر احترامه والمحافظة عليه، ناهيك عن أنّ الشّعر عمدة رجال اللّغة وعلماء النّحو والبلاغة من جهة استمداد القوانين والقواعد اللّغوية.
وقد انبنت الشّعرية القديمة على التّشريع في الارتقاء إلى ذرى جمالية وتعبيريّة، ما يضمن أن يكون الشّعر شعرا، وعلى تصوّر مجدّد للشّعر انتقل من الطّبع والموهبة إلى الصّنعة. وهو التصوّر الذي ستخلّده السنّة النقدية من، ابن سلّام الجمحي (ق2هـ) إلى ابن خلدون (ق 8 هـ) حيث اُعتبر الشّعر صناعة تمارس على مواد قوامها العلم. واُعتبر «صناعة لغوية بالأساس وفعال إنسانيا على الكلام « اقترب من مفهوم الحرفيّة.
وقد تداول النقّاد القدامى هذا المعنى، ومنهم ابن طباطبا في «عيار الشّعر» وقدامة بن جعفر في «نقد الشّعر» والأصمعي في كتابه «طبقات فحول الشعراء» والعسكري في «الصّناعتين» ـ وابن قتيبة في «الشّعر والشّعراء» والجاحظ في «البيان والتبيين»، إلى غيرهم … وإن ارتبط الشّعر القديم بجملة من المفاهيم من نسج وحياكة ونظم وصناعة، وجب التفطّن إلى أهمّية العناصر التي يستعملها الشّاعر في صناعته الشّعرية. فالشّعر حسب الجاحظ : «صناعة وضرب من النسج وجنس من التّصوير»، وحسب ابن خلدون: «الشعر هو الكلام البليغ».
ولقد استتبع توسيع مفهوم العلم في البيئة الثقافية العربية الإسلامية مع ظهور الحدث القرآني والانفتاح على الموروث الثقافي لأمم سابقة ومجاورة (اليونان- الهند ـ الفرس- الصّين …) تغيُّر في البنى الثّقافية والعقلية، وبدأ يتّضح تنازع الأدوار ضمن الأطر الاجتماعية والثّقافية الجديدة. ولم يكن الشعر والأدب عامّة خارج هذا السّياق، فقد حاول الإسلام بناء تصوّر جديد للشّعر بربطه بالأخلاق عموما، وبمبدأ الصّدق على وجه الخصوص، وهذا الرّبط يدفعنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان يراعي طبيعة الشعر بوصفه فنّا؟ أم يعامله على أساس أنّه كلام ؟ فمن الواضح أنّ هذا التصوّر يجرّد الشعر من كلّ أبعاده الفنّية ليحلّ محلّها أبعادا أخلاقية تتماشى ومنظومة القيم التي جاء بها الإسلام.
إنّ المتأمّل في تاريخ العلاقة بين النقد الإسلامي والشعر، يلاحظ أنّ الإسلام لم يحاول القضاء على الشعر ولا على بعده الفنّي والإنساني، وإن أحكم ضبطه وقيّد سلطته الرّمزية، فقد كتب الخليفة عمر بن الخطّاب إلى الوالي أبي موسى الأشعري: «مُر من في قبلك بتعلّم الشّعر فإنّه يدلّ على معاني الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب». ومن الطّريف أيضا أنّ ابن عبّاس كان يقول: «إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاُطلبوه في أشعار العرب، فإنّ الشّعر ديوان العرب».
وقد كان لفئة المدوّنين دور كبير في تأسيس الخطاب النقدي، فهي التي انتقت النّصوص الشعرية وكرّستها بوصفها نماذج فنّية ومنحتها حجّية لغويّة. وقد أفرز هذا التوجّه ظهور عصبيّة للشّعر القديم، فالشعراء الذين يعتدّ بفصاحتهم هم الشّعراء القدامى، والذين عاشوا قبل نهاية القرن الأوّل للهجرة واستقرّوا في البوادي، ولم يخالطوا أهل المدينة (المدر).
هكذا أصبح الشّعر القديم هوّ النّموذج الفنّي الذي ينبغي احتذاؤه، وهكذا عسرت مهمّة شعراء القرون الهجرية الأولى. وقد شاع البحث في مظاهر التّجديد في الشّعر المحدث (ق2-3هـ) وبين النقّاد ومؤرّخي الأدب المعاصرين، وقاموا بجهود في تتبّع قصائد الشّعراء المحدثين والتّفتيش فيها عمّا يعتير من علامات التّجديد. وبرّر بعضهم وصف القصور والرّياض وحياة البذخ بأنّه تجديد طرأ على الشّعر، وذلك لتغيّر الحياة في المجتمع العبّاسي، ولهذا استبدل الشّعراء وصف الصحراء والنّاقة بوصف القصور والجواري. وقد ضلّت مسألة التّجديد في الشّعر المحدث قائمة مفتوحة من المظاهر المتنوّعة.
يهمّنا في كلّ ذلك أنّ الشّعر كأحد مكوّنات الأدب تأثّر بالعوامل السياسية والاجتماعية والفكريّة، والتحوّلات في معنى العلم باتّساع معناه إلى المعاني الفلسفية والعلمية والفقهية التّشريعية. وكان على الشعر أيضا أن يتجاوب مع الذهنية العربية الإسلامية الجديدة التي أصبحت منشدّة إلى الدّين ومجالاته من أصول وفروع . فالمنظومة الثقافية والقيميّة الجديدة التي أفرزها الحدث القرآني أتت بوظائف لم تكن معهودة سابقا نهضت بها شخصيات لم تكن موجودة قبل الإسلام على الأقلّ في مستوى المكانة وإعلاء القيمة والصّدارة، ومنها «الخطيب» و»المحدّث» و»المقرئ» و»الفقيه»…
وقد كان لهذا التحوّل الفكري والعقائدي تأثير كبير في المنظومة الثقافية والاجتماعية التي سادت قبل الإسلام، ولعلّ أهمّها تراجع مكانة الشّاعر، وتقلّص دوره في الحياة العامّة. فقد أصبح المجال النّظري في العالم الإسلامي مشغولا بعد أن جاء النبيّ العربيّ برسالة الإسلام، ولهذا كان على الشاعر أن يعمل جاهدا ضمن سياق تنازع الأدوار في البيئة الثقافية العربية الإسلامية على استعادة الدّور المسلوب والمكانة المتأرجحة.
هكذا نفسّر تجربة أبي تمام والمتنبّي، خاصّة في جمعهما بين القديم والمحدث: «النيوكلاسيك» ضمن تجربة الشّعر الحماسي الذي نعدّه فنّا من فنون الشعر له خصائصه التي تميّزه عن فنون القول الأخرى. فهو قوّة قوليّة إبداعية متعالية عن الأغراض التقليدية، وإن تفاعلت معها واحتذت بعضها، والحماسة خطاب مشحون بشحنة وجدانية عالية تعبّر عن مواجيد الشاعر وتطلّعاته وطموحاته وانفعالاته المختلفة، ثورة على الواقع الرديء وترغيبا في القيم المثلى.
والحماسة حينئذ جهد كلاميّ يوازي جهادا فعليّا يزوّدنا بطاقة جمالية وروحيّة هائلة لاستنفار كوامن العجز فينا صوب استخلاص قدرات إنجازيّة ممكنة متى رُمنا أن ننتقل من كلام إلى فعل، ومن جهد الفهم إلى مجاهدة الفكر في تفهّم مقتضيات القول، وضرورات الفعل في التّاريخ إيمانا بخلق فضاء للتّحاور بين التّراث والحداثة، رغبة في استئناف الدّور الحضاري فكرا وعلما وفلسفة وأدبا، من داخل مركزيّة الثقافة العربيّة الإسلامية والهويّة الجامعة اعتزازا وفخرا وأملا…
أستاذ وباحث في الحضارة من تونس