مقالات
الديمقراطية حلم عربي يعيشه دريد لحام في «سيلينا»… المدينة الفاضلة
الديمقراطية حلم عربي يعيشه دريد لحام في «سيلينا»… المدينة
يمثل الفنان السوري دريد لحام ضلعا مهما في قوام السينما العربية، وتلعب أفلامه دورا رئيسيا في تنشيط الحركة الثقافية، إذ تأتي نواة لحراك سياسي يضطلع به البطل، الذي يكتب السيناريو أو يشارك فيه في إضافة تنويرية لرواة كممثل اعتاد أن يدخل حقل الألغام بما يفجر من قضايا تتصل بالواقع العربي وتحدياته ومستقبله وبعده القومي، وذلك هو النازع الأهم الذي يشغل دريد ويبرز كخط أساسي في كثير من أعماله السينمائية والمسرحية.
وقد تجلت المعاني الدالة على هذا الإنشغال بالقومية والعروبة في أفلامه «الحدود» و«التقرير» و«الآباء الصغار» حتى أن هذا التضمين للسياسة والثقافة والهموم الإجتماعية صار منطقا في عقل ووجدان وأعمال النجم الكبير ومذاقا لاذعا لأسلوبه الساخر وطعم أفلامه ورؤاه، فهو يكره التناول التقليدي ويحرص على إضافة التوابل الحريفة في الخلطات الفنية كل ذات الصبغة السياسية غير المباشرة.
في النماذج التي ذكرناها سلفا يقدم لحام بانوراميات عن الواقع العربي، ويطرح أسئلة صعبة عن المستقبل والأفق من منظور المواطن البسيط، الذي يبحث عن مرفأ أمان على المسطح العربي لينعم بالاستقرار والطمأنينة، ففي فيلم الحدود يقف حائرا عاجزا عن عبور الحواجز الجغرافية التي تفصله، فالهوية الشخصية المثبوت فيها عروبته ليست مسوغا كافيا لدخوله الأمن، فالشرطي يحول بينه وبين غاية الوصول، لأنه مكلف بمهمة التفتيش ولا تكفي البيانات الشخصية للتدليل عليه، وكذا يكون حال المواطن أيضا في فيلم «التقرير» يلهث وراء إثبات هويته وشخصيته وعنوانه.
يختلف الأمر نسبيا في الآباء الصغار، حيث يبدو الموضوع كأنه حالة إنسانية لأب مكبل بعبء أبنائه بعد رحيل الأم بينما مرامي القصة والسيناريو والحوار لا تناسب هذه القراءة المبسطة.
المستوى الآخر لمعاني يوجب أن يكون الأب رمزا لرب العائلة العربية أو العائلة السورية في عمومها، فليس هناك مجال للتجزئة والحسابات الإقليمية، لأن الواقع واحد وأزماته واحدة، لذا رأينا في وجود المعلمة المصرية «حنان ترك» بين أفراد العائلة السورية الصغيرة دمجا مرحبا به من قبل الأب والأولاد، ولا ظل لاغتراب أو تنافر قط بين الإثنين، بيد أنه تنطوي تحت الفكرة الأساسية مشكلات وتفاصيل صغيرة تعطي عناوين كثيرة للقصد من وراء الفيلم، ولكننا لسنا الآن بصدد مناقشة الآباء الصغار، وإنما نشير إليه بوصفه واحدا من أفلام دريد لحام المهمة، ويصلح لأن يكون مدخلا أو تمهيدا للكلام عن المدرسة الفنية للفنان الكبير التي جاء فيلمه الأحدث «سيلينا» لها باعتبار أن عرضه الأول في القاهرة كان قريبا جدا ولا تزال أصداؤه لدى جمهور قصور الثقافة حاضرة وقوية.
«سيلينا» هو اسم المدينة، التي يحكمها الديكتاتور ويعيش فيها الشحاذ «دريد لحام» أمنا من كل خوف لأنه ليس لديه ما يخسره فلا يملك غير بضعة أثواب بالية يرتديها كلها على جسده، ومن ثم فلا تشغله قضية المصادرة أو الثروة أو الترويع ولا هو مضطر لأن يخفي وجهه وراء قناع كما يفعل سكان المدينة حال استقبال الملك لهم، وهنا تتجلى الفكرة التي تدور حولها الأحداث المأخوذة والمنقولة بأداء مسرحي عن المسرحية ذاتها «هالة والملك»، التي تعالج القضية ذاتها، وتضغط على الأوتار المشدودة نفسها وعلى الوجع بعينه، وعورات البشر التي تداريها الأقنعة الكثيرة الموضوعة على الوجوه في مناسبات مختلفة تتغير وتتلون حسب الظروف والرؤية والضرورة وفي الأحوال كلها يتقمص شخصيات ليست هو ويلعب أدوارا بهلوانية مختلفة، فمرة يكون الثعلب ومرة يكون الحمار ومرة يكون القرد، المهم ألا يقع فريسة في يد الملك.
ومع إيقاع الرقصات الإستعراضية والحالة الكرنفالية بأجوائها الكلاسيكية وطابعها الأوروبي القديم يصدح صوت ميريام فارس أتيا من بعيد ناشرا الأغاني ومناديا على سكان المدينة في إعلان عن قدوم شريكة الملك في الملك والحياة في إلماح ذكي لاستحقاق واحدة من عامة الشعب لتبوؤ مكانها على العرش، ويلاحظ في دبكات الإستعراض الدق على الأرض بكعوب قوية للأحذية الرسمية دليلا على القوة وشدة البأس وهي دلالة رمزية يشير بها المخرج حاتم علي إلى قوة باطشة كانت في أزمنة تاريخية منصرمة ربما يخشى من عودتها أو يحيل مشاعر الخوف إلى عوام الناس والدهماء وتلك العروس التي تشبه سندريلا في بؤسها وجمالها وموديلات ثيابها الطويلة ذات الكرانيش وحذائها المدبب.
وفي تقديري أن هذه الإستخدامات والحيل هي طريقة للاحتماء في التاريخ كغطاء يصح لإخفاء مآرب السياسة من الحكاية بشكلها المباشر، وإن كانت كل المعاني مكتملة في ما هو مكتوب بين السطور، فلا حاجة للمشاهد الفطن لمزيد من الإيضاحات، ولعل جل الجماليات في الفيلم البديع تكمن في التفاصيل الصغيرة بتكويناتها المتداخلة في الصورة والإكسسوار والمزيكة والحركات الإيقاعية للراقصين والمجاميع والأبطال، وذلك التدرج اللوني وتباينات الضوء والظل، إضافة إلى الأداء التمثيلي المحترف للفنان اللبناني الكبير جورج خباز وباسل خياط وأيمن رضا وحسام تحسين بك وقمر عمرايا، وبالقطع يأتي السيناريست نادر الأتاسي في مقدمة هؤلاء، فهو صاحب الإمتياز في الرؤية الثرية ذات المستويات الفنية المتعددة التي أتاحت الفرصة للمخرج حاتم ليلعب على جوانب مختلفة بوعي واقتدار وتصويب دقيق في اتجاه الهدف.
في النهاية يفضي الفيلم إلى مفهوم هو الأهم يتمثل في الحالة النقدية الحرة والجادة لأمراض الانقياد والتبعية وأعراض الغباء السياسي التي يقع فيها الرعية قبل الراعي بتماديهم في الكذب والنفعية، واستمراء النفاق في الحالة الدرامية الافتراضية التي صنعها السيناريست والمخرج والبطل، فضلا عن صدق الحالة الشعورية للمثل القدير والفنان الذي يأبى إلا أن يكون هو محبا لفنه وشعبه ومشاغبا سينمائيا يعرف الموقع الحقيقي للكوميديا ومحلها من الإعراب بعيدا عن الإسفاف والإبتذال والفوضى عن دريد لحام أتحدث.
كمال القاضي