اقلام حرة
نقد الدين هو البديل عن عنف الدين / بقلم عبد العزيز القناعي
اختلف الإنسان الحديث في تقديم التعاريف والمصطلحات الدالة على حالة معينة للمجتمع المتخلف، فإن كانت الثقافة هي المعيار الأكثر أهمية نظرا لتعلقها بالذات الانسانية وإبداعها في مختلف المجالات، إلا أن بالمقابل ظهرت توصيفات ومعايير قد يكون لها المقدرة الأكبر في تقديم الوصف الأدق لتخلف مجتمع ما، وقد ظهرت غالبية هذه المصطلحات في القرن الثامن والتاسع عشر تحديدا بعد قيام عصر النهضة في اوروبا واشتداد افكار الحداثة والتنوير والعلمانية آنذاك. وعلى رأس هذه المعايير يأتي التخلف الاقتصادي ثم التخلف الاجتماعي وما تفرع منهما من عناوين فرعية كان النصيب الاكبر منها لمفهوم الثقافة والدين ومصطلح التنمية ثم التكتلات الاقتصادية والسوق المشتركة لأمم متحدة ذات بقعة جغرافية او تحالفات سياسية.
فكيف تأتي التنمية والنهضة والتطور لشعوب مهزومة، شعوب تحمل تاريخا يعيق تقدمها. فلم يصادفنا في التاريخ الحديث شعوب تعاني من هذه الإعاقة الحضارية سوى الشعوب العربية التي قبلت بكل خنوع ورضى وإيمان وطاعة أن تكون الحلقة الأضعف في تطور الأمم والمجتمعات، فانتكاسة مجتمعاتنا العربية اليوم الي الماضي الديني والتشرنق بتراثه ونصوصه وثقافته وسلوكه، أنتج خيالات فكرية مريضة، وتيارات جهادية قاتلة، وأفراد يبحثون في الحاضر عن الموت والدعاء والتهليل والتكبير حتى يجدوا من يحاربوه أو يقتلوه ليضمنوا حياة ما بعد الموت وفق رهانات غيبية لا دليل علمي صادق حتى الآن عن مضمونها أو حقيقتها.
إن فلسفة العصر الحديث تقتضي نقد الدين بنصوصه وتراثه وسلوكه للتخلص من العنف الذي يصنعه بفعل صلاحية وديمومة نصوص القتل والكراهية والتكفير، والبدء بإحداث القطيعة التاريخية مع الزمن الماضي ومن ثم تأصيل الحاضر والمستقبل في الجذور التاريخية المتغيرة ونبذ اللامعقول والتقليد الديني. إن أزمتنا الشاملة في المجتمعات العربية قاطبة تجلت في مرور تاريخ طويل من الهزائم العسكرية والثقافية والفكرية والاقتصادية، غاب عنها الالتزام بالمعارك الهامة للبنية
المجتمعية وهي معارك التنوير والديمقراطية وتكوين مؤسسات المجتمع المدني. ومع كل هذه الإخفاقات لازم العقل العربي بنية الماضي الديني، خائفا ومذعورا ومهزوزا من التطورات الإنسانية، فانكمش في هوية ماضوية خلقت له أزمات بنيوية نتيجة التمسك بمحددات غير قابلة للتطور وتتصادم تلقائيا مع حضارة وعقلانية الفكر البشري. فالأنا العربية حملت بذور التأخر والتراجع وافتقدت لشروط ميلاد جديدة ضمن مجال التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي نفسها كانت لدول تعيش بنفس الظروف الرجعية، إلا إنها تخلصت من عقدة الأنا والآخر ونبذت التفرقة والمحاسبة على أساس العرق والدين واللغة واستندت الي الحداثة بما هي تغيير جذري في الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتكمن غاياتها وتجلياتها في الحداثة السياسية باختيار العلمانية كمنهج ونظام يساهم في تعزيز المدنية والحكم الرشيد للمجتمعات. إن النقد التاريخي الفعلي لمسار التجربة العربية الاسلامية على مر تاريخها هو السبيل لإبراز معوقات استيلاد الحداثة العربية، وبالتالي محاولة بناء فضاءات ثقافية وفكرية تعيد انتاج فلسفة عربية حديثة تأخذ بها السياسات والأنظمة العربية إن أرادت اللحاق بالحضارة وإنقاذ شعوبها من التردي والانحطاط التاريخي. فلا يمكن لوم العوامل الخارجية دائما في إخفاق الشعوب وتراجعها الحضاري، فالغرب لا يتعامل بفوقية إلا مع الضعفاء أصلا وليس الأقوياء، والقوة تصنعها الحداثة والعلم والعقلانية، وهي ليست حكرا على الغرب، بل هي متاحة لمن يريد فعلا التقدم ويؤمن بأن التاريخ يتحرك وليس واقفا منذ 1400 سنة على مفاهيم وأحداث لها ظروفها وزمانها، فالتاريخ العربي والاسلامي في حقيقته حمل بذور اللاحداثة، فالتدمير الفكري حدث من الداخل العربي وليس من الخارج، حدث حين اعتمد العقل العربي على الحفظ والتلقين والدين وابتعد عن العقل والعلم بحجج واهية وضعف ثقافي وغياب دور الشعوب في تحديد مصيرها.
إذن، كيف يفكر الإنسان العربي بحرية في ظل هذا المناخ؟ وكيف يجرؤ الإنسان على التعبير عن رأيه وهذا هو الحال؟ ثم كيف نتحدث عن حرية الإعتقاد وهناك من
ينتظر لتنفيذ ما يسمي بحد الردة؟.. فهل تكفي النصوص القانونية لتكون ضمانة مهمة وقوية لكفالة مثل هذا الحق؟ أتصور أن الأمر في حاجة إلي إعادة حرث التربة الثقافية من جديد نبذر فيها بذور التسامح بدلا من الكراهية وزهور القبول بالآخر بدلا من الرفض المطلق ونعلي من قيمة الحوار والإختلاف من أجل الوصول إلي الحقيقة.
في الحقيقة، وحتى نصل الي درجة من وضع الحلول، لابد أن نقول ما تم السكوت عنه مدة طويلة بأن الدين، يتحول بفعل رجال الدين والفقهاء إلى علة للتخلف والركود العقلي والفكري ينتج عنه بالضرورة إضطهاد فكري وديني وعرقي بفعل التشرنق أو التكلس الذي يصيب نصوص هذه الأديان بفعل الجمود والسكون لإمتناعها عن التجديد والتبديل والتغيير والنسخ بمجرد وفاة النبي أو الرسول الذي تتجدد في عهده النصوص المقدسة بإستمرار وتتغير بل وقد تلغى نهائياً أو تبقى دون أن يكون لها مفعول. وهنا يكمن السر في تراجع الشعوب بعد إعتناقها لأي دين بفترة تطول أوتقصر، لكنها لامحالة من إصابتها بالتخلف. لأنها تفقد ديناميكيتها فلا تجد من يقوم بتعديل نصوصها أو تغييرها أو حتى إلغائها بعد فقدها للنبي، وما الخمول والإنحطاط الذي يصيب العقل الديني نتيجة وصفات النصوص الدينية المتكررة دون إعادة النظر فيها بشكل جدي، سوى الضعف الذي يصيب الجهاز المناعي عند تكرار تناول المريض لنفس الدواء. ومع أن بعض المذاهب العقلانية التي تظهر بين فترة وأخرى، تشكل أحياناً محاولات جادة وجريئة لتخليص العقل الديني من حالة السبات، والتقليل ما أمكن من الآثار الجانبية الضارة للفكر الديني، بإدخال نوع من التغيير في الفقه الديني، إلا أنها لا تلبث أن تحتاج هي نفسها إلى التغيير والتجديد. وكنتيجة طبيعية لثبات النصوص الدينية فإنها تنقل عدوى ثباتها إلى العقل الديني ليناله الجمود ثم لا يلبث أن يتحول إلى عقل محنط وفي أحسن الأحوال إلى كمبيوتر آلي يقوم بتلقي البرامج المقدمة له وإكتنازها دون أدنى إعتراض، ومن ثم الإشتغال وتقديم النتائج وفق تلك المعطيات.
العقل الديني إذن، هو في أفضل حالاته آلية تقوم بترجمة النصوص الدينية أفعالاً وأعمالاً وحركات وفق إملاءات وتفاسير تلك النصوص ذاتها. ومن هنا نجد أن التجديد والتبديل والتغيير أو أي عملية إجرائية أخرى في النصوص الدينية تعتبر ضرورة لابد منها وتفرض نفسها بكل قوة كلما إشتدت الآثار السلبية لهذه النصوص حدةً. إلا أن أي إجراء عملي تجديدي لهذه النصوص لا يلبث أن يتحطم ويتفتت عند إصطدامها بهذه النصوص الصلبة والصلدة من جهة، ومن قوة المؤسسات الدينية وكهنة الدين الرافضين لأي تجديد يطال النص الديني بذاته.
المجتمع المتخلف اذن، ليس فقط ذلك العاجز عن التطور والحداثة المادية، فمجتمعات الخليج العربي مجتمعات غنية بالنفط ولكنها متخلفة ثقافيا وحضاريا، بل المجتمع المتخلف هو الذي يقبع افراده عاجزين عن التفكير بفعل ثقافة تحكمهم وبفعل موروث يعيقهم وبفعل مؤسسات ورجال دين يمنعون النقد والسؤال والشك. فالشعوب المغيبة بأفكار وثقافة ماضوية هي الشعوب التي تغيب عن الفعل والحضارة والأخلاق وبالتالي تخسر البقاء في الحياة وتبقى في غياب وشلل تام وهي غالبا الشعوب والمجتمعات المتدينة والتى تحمل معتقدات ايمانية غيبية، بينما الشعوب التي تنظر الي الحياة، هي الشعوب التي اختارت العلم والعقل مسارا وفضاءا معرفيا يتيح لهم التطور والبقاء ضمن صيرورة التاريخ الانساني العظيم بما يحمله من ابداع وانسانية وحضارة، وهي غالبا الشعوب والمجتمعات العلمانية.