مقالات
رؤية 9 * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”

* عنوان المقالة: “الخطاب الدعوي المهادن: أبعاده وتأثيراته على المجتمع” (9)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
ليست كل دعوةٍ إلى الله رشيدة، وليست كل منبرٍ ناطقٍ باسم الدين نزيهًا، فثمة خطابٌ دعويٌّ ينشأ لا ليوقظ، بل ليُخدّر، لا ليقاوم الظلم، بل ليُجمّله، ولا ليزرع العزّة، بل ليهندس الطاعة ويعلّبها على مقاسات السلطان.
هذا هو الخطاب الدعوي المهادن: ذلك الخطاب الذي يرتدي ثوب الوعظ، ويُشهر النصوص في وجه العامة، بينما يلوذ بالصمت أو التحايل حين يعلو صوت الاستبداد، ويُصادر القرار، ويكسر كرامات الناس.
* حين يُستبدل النص بالبَوصلة السلطانية
المهادنة في جوهرها ليست حكمة، بل حياد جبان حين يكون الظلم فادحًا، إنها انحراف بالبوصلة من التوحيد إلى التمجيد، ومن الإصلاح إلى التسويغ، ومن صرامة الحق إلى مرونة الطاعة، هنا، لا تعود الآيات تُتلى لتُحْيي القلوب، بل لتخديرها؛ ولا تُروى الأحاديث لتنهض بالناس، بل لتقييدهم بحبال “الفتنة نائمة”، و”السمع والطاعة” المُجتزأة من سياقها.
* مهادنة تسلبُ المجتمع وعيه
حين يتسيّد هذا الخطاب، يتآكل الوعي الجمعي، ويتحوّل الدين إلى طقوس مُفرغة من مضامينها التحررية، يغيب الحديث عن العدالة، والكرامة، والحقوق، وتُستحضر مفردات القَدَر والابتلاء والتسليم لِمَن “ولاّه الله أمرنا”، وكأن السُلطان لا يُحاسب، ولا يُسائل، ولا يَضلّ! وتُصبح وظيفة الداعية المُهادن أن يُسكّن الألم، لا أن يُعالجه، أن يطلب من المظلوم الصبر، لا أن يطالب الظالم بالردع، أن يحوّل الثورة على الفساد إلى أزمة إيمان، ويستدل بالنصوص لا لرفع الظلم، بل لتبريره.
* أبعادٌ نفسية واجتماعية
إن آثار الخطاب المهادن لا تتوقف عند الساحة السياسية، بل تمتد إلى أعماق الفرد والمجتمع على المستويات المختلفة
• فرديًا: يُربي جيلًا خائفًا، سلبيًا، مستكينًا، يرى في كل تغيير فتنة، وفي كل نقد خيانة.
• اجتماعيًا: يُصادر الدين من ساحات المقاومة والنهوض، ويضعه في قوالب وظيفية لصالح من يملكون القرار.
• سياسيًا: يُمنح الاستبداد شرعية دينية، ويُحرم الناس من أبسط أدوات المساءلة.
* صناعة التدين الآمن… للسلطة
الخطاب الدعوي المهادن لا يكتفي بتطويع النصوص، بل يُنتج نمطًا من التدين “الآمن” على السلطة، والخطر على الشعوب، تديّنٌ مشغول بالقشور والشكليات، مهووس بالمظهر والسلوك الفردي، بينما يتعامى عن الظلم البُنيوي، والتفاوت الطبقي، والفساد المنهجي، إنه تدين منزوع الدسم، لا يزعج الحاكم، ولا يقلق الأجهزة، بل يخدم استقرارهم، ويُشوش على كل من يرفع الصوت باسم الحق.
* بين التزوير والتقصير
المهادنة الدعوية تتراوح بين تزوير متعمّد لرسالة الدين، وتقصيرٍ ناتج عن جهل أو خوف، وكلاهما خطير، فالمزوّر يُضلّل الناس باسم الفقه، والمتقاعس يخذلهم حين يحتاجونه صوتًا للحق، وكلما طال صمت الدعاة عن طغيان الواقع، تجرأ الطغاة أكثر، وتضاءلت ثقة الناس في الدين ذاته، لا في ممثليه فقط، وهذا من أعظم الخسائر التي يُنتجها الخطاب المهادن: تفريغ الدين من دوره الريادي، وخلط الحق بالباطل باسم الحكمة والاتزان.
* حين يصبح الصمت خيانة
الداعية المهادن لا يصمت فقط عن المنكر، بل يمنحه غطاءً شرعيًا، ويقف حاجزًا بين الناس والحق، في لحظة تاريخية يكون فيها الموقفُ شهادة، والكلمةُ مسؤولية.د، ولذلك، فإن من أعظم أوجه التدجين الدعوي، أن يتحول المنبر إلى بوقٍ ناعم، يهوّن كل طغيان، ويصنع من الجلادين أولياء أمور، ومن السكوت على القهر طاعةً لله!
* ختامًا
إن نقد الخطاب المهادن ليس خروجًا عن الدين، بل وفاء له.
هو صرخة في وجه من صادروا النور، وأعادوا تعبئته في قوارير الظلام،
هو رفضٌ لتحويل النصوص من بوصلة نحو الله إلى سلاسل تُكبل الإنسان.
قد آن أوان الوعي، وأوان أن نقول:
ليس كل من صعد المنبر داعية لله، ولا كل من قرأ النص فهمه.
الدين الذي لا يُنقذ المظلوم من بطش الظالم، هو دينٌ مُزوّر لا يمثل الإسلام…أليس كذلك يا أصدقائي؟ ولكم مني كل تحية وسلام
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “نماذج مقاوِمة: دعاة ومنابر حرة تتحدى التدجين”
* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1974)
* 01. ذو الحجة . 1446 هـ
* ألأربعاء . 28.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)