مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة، عنوان السلسلة: * التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
عنوان المقالة:
الدعاية السامة: كيف تؤثر الإعلانات المتكررة على قراراتنا واستهلاكنا؟
– في زحام التطبيقات، حيث تُفتح العيون كل صباح على شاشة مضيئة لا ترحم، يتسلّل إعلان صغير، ثم آخر، ثم مئة، تتوالى الصور، وتتعاقب الشعارات، وتُطرَق مشاعرنا طرقًا ناعمًا لا يؤلم ظاهريًا، لكنه يعيد تشكيل وعينا قطعةً قطعة.
– الإعلانات هنا لم تعد مجرد رسائل تجارية، بل تحوّلت إلى أدوات سيطرة ناعمة، تنفذ إلى اللاوعي ببطءٍ وذكاء، فتُعيد برمجة القيم، وتعيد ترتيب الأولويات، دون أن نشعر بأن شيئًا قد تغيّر فينا… لكنه تغيّر.
* ليست مجرد إعلانات، بل هندسة رغبة.
– منذ اللحظة التي تدخل فيها تطبيقًا – سواء كان للترفيه، أو التواصل، أو حتى للتعلّم – لا تتعامل مع محتوى بريء محايد، بل مع منظومة تسويقية دقيقة، تعرفك أكثر مما تعرف نفسك، وتعرف ما تريد قبل أن تدركه أنت، هي لا تعرض منتجًا، بل تصنع احتياجًا، وتخلق فراغًا، ثم تبيعه لك كأنه الحل.
– يقال إن الإعلان الجيد لا يبيع منتجًا، بل يبيع قصة، لكن في الزمن الرقمي، أصبحت القصة سامة، لأنها تُبنى على المقارنة، والإحساس بالنقص، وخلق صورة مثالية متخيَّلة لحياة لا تشبه واقع أحد، إنهم لا يبيعون ساعة فاخرة، بل يبيعون “ثقة بالنفس”، ولا يروجون لعطر، بل لـِ “قابلية الإعجاب”، وهكذا، يتحوّل الشراء من فعلٍ واعٍ إلى طقس نفسي يبحث فيه الإنسان عن معنى مفقود.
* التكرار لا يصنع الاقتناع فقط، بل يصوغ الهوية.
– نحن لا نشتري ما نحتاجه، بل ما نُقنِع به أنفسنا أننا نحتاجه، بفعل التكرار الذكي، والصورة المثالية، والربط النفسي المحكم بين السلعة والشعور، إعلان واحد لساعة فاخرة لا يؤثر، لكن خمسين إعلانًا خلال يومين، وبأصوات ووجوه مؤثرة، تجعل اللاوعي يحفظ الرسالة كأنها نشيد داخلي: “لن تكتمل أناقتك إلا بها”، وهكذا تتشكّل هوياتنا الشرائية عبر لحظات عابرة، نضحك فيها على الإعلان دون أن ننتبه أننا نأخذه معنا دون وعي،
بل الأخطر من ذلك أن هذه الإعلانات لم تعد تكتفي بالترويج لمنتج، بل صارت تمارس نوعًا من “الابتزاز العاطفي”، فتقنعك بأن سعادتك رهن بشراء ما يُعرض، وأنك متأخر عن الركب إن لم تمتلك ما يمتلكه الآخرون، حينها، يصبح الاستهلاك فعلَ هروب من الشعور بالنقص، لا تلبية لحاجة حقيقية.
* الدعاية السامة ليست تلك التي تكذب، بل تلك التي تختزل الإنسان في مستهلك.
– إن أخطر ما في هذه الإعلانات ليس أنها تدفعنا لشراء ما لا نحتاج فقط، بل لأنها تغيّر معيار الرضا في نفوسنا، حين تقارن نفسك بمن في الإعلان، أو بمن اشترى ما رُوّج له، تشعر أن النقص فيك، لا في السلعة، وحين تفشل في مجاراة موجة الموضة الاستهلاكية، تعيش وهْم “التخلّف عن الركب”، فتدخل سباقًا لا نهاية له، عنوانه: “اشترِ لتكون”.
– وبين هذا وذاك، تتآكل القدرة على التمييز بين الرغبة الأصيلة والرغبة المصنوعة، وتذوب الذات داخل قالب السوق الكبير، يصبح الإنسان تفاعليًّا أكثر منه اختياريًّا، يشتري لأن الإعلان وُجّه له، لا لأنه اتخذ القرار بحرّية، وهنا يتحقق ما يشبه “الاستعمار الذهني”، ولكن بأدوات ناعمة وملوّنة.
* والأخطر أن هذه الدعاية تغذّيها الخوارزميات.
– ليست المسألة عشوائية، فكل إعجاب منك، وكل وقفة عند منشور، وكل تمرير بطيء أو سريع، هو رسالة تُفهم وتُحفظ وتُترجم إلى إعلانات مصممة لك خصيصًا، أنتَ الهدف، وأنتَ السوق، وأنتَ السلعة أيضًا، فكل تفاعل منك يُباع ويُشترى في سوق البيانات، لتُعاد هندسة وعيك عبر إعلانات متقنة.
– وهكذا، تتحول التطبيقات إلى مرايا مشوهة، لا تعكس ما نحن عليه فعلاً، بل تعكس ما يريد السوق أن نكونه، والخطر الحقيقي أن تعتاد هذه المرايا، وتبدأ في تصديقها، وتعيد تشكيل ذاتك على ضوئها.
* في هذا التيه الرقمي، نحتاج إلى يقظة روحية وبوصلة فكرية.
– ليس الحل في الانسحاب الكامل من هذا العالم، بل في ترسيخ وعيٍ ناقد يقرأ الإعلان لا كصورة جميلة، بل كرسالة أعمق، تسعى إلى إعادة برمجة داخلية.
– نحتاج إلى إعادة تعريف “الحاجة” و”الرغبة”، والتفرقة بين ما نشتريه لأنفسنا، وما نشتريه لنرضي صورة زائفة في أذهان الآخرين، علينا أن نعيد لقراراتنا حرّيتها، بأن نواجه هذا السيل الإعلاني بالوعي، لا بالهروب؛ بالاختيار، لا بالتبعية.
– ففي زمنٍ تُصاغ فيه القرارات عبر الشاشات، وتُستدرج فيه العقول بالإعلانات، يصبح التحرّر من الدعاية السامة مقاومة فكرية وسلوكية راقية.
– هي ليست مجرد مقاومة لشراء منتج، بل مقاومة لتسليع الذات، وتذويب الهوية، وتحويل الإنسان من كائن حرّ إلى تابع رقمي… ولكم مني كلّ تحيةً وسلام
* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: “الطفل والتطبيقات الرقمية المختلفة: تربية مبكرة على التشوش والقيم المزدوجة”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1937)
* 22. شوال . 1446 هـ
* ألأحد. 20.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)