مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* هل ما نشاهده يوميًا يُغيّر من شخصياتنا؟ نظرة في التأثيرات السلوكية العميقة (4)

– نحن لا نعيش حياتنا وحدنا، هناك شاشة ترافقنا أينما كنا، تنبض بمحتوى لا يتوقف، وتعرض آلاف الوجوه والمواقف والتصرفات في كل يوم، من هنا يبدأ السؤال المخيف: هل ما نشاهده يُغيّرنا من الداخل؟ هل يمكن لمجرد مقطع قصير، لا يتجاوز دقيقتين، أن يعيد رسم ملامح شخصيتنا أو يعيد تشكيل ردود أفعالنا وقيمنا ومزاجنا؟ الإجابة ليست “نعم أو لا”، بل أخطر من ذلك: نحن نتغيّر دون أن ننتبه، نتآكل ببطء، ونُعاد تشكيلنا دون ضجيج.
* المحتوى لا يعرض فقط، بل “يطبع”
– الدماغ البشري لا يتعامل مع المحتوى الرقمي كـ”مشاهِد”، بل كمتلقٍ نشِط، كل صورة تمر، كل قصة تُروى، كل مشهد يُعاد، يُسجل في مكان ما في الذاكرة الشعورية أو اللاشعورية، ومع التكرار، تبدأ أنماط معينة بالترسخ: هذا هو “المثير”، ذاك هو “المضحك”، وتلك هي “العادية”، وهنا مَكْمنُ الخطورة: عندما يُعاد تعريف “الطبيعي” بناءً على ما نراه، لا على ما نؤمن به.
– ومع الوقت، يصبح ما كان مرفوضًا مثيرًا للضحك، وما كان غريبًا يبدو مألوفًا، ثم طبيعيًا، ثم… جزءًا منّا. لا نعرف متى حدث التحوّل، لكننا نفيق يومًا لنجد أنفسنا نضحك على أشياء لم نكن لنبتسم لها سابقًا، ونُعجب بأشخاص لم نكن لنقترب من أسلوبهم أصلًا… هل تشعر بذلك؟ كن صريحًا
* تحولات لا نراها، لكنها تحدث
– شابٌ كان يحترم والديه، صار يحدّق فيهم بلا مبالاة، فتاة كانت تستحي من نشر صورها، أصبحت تلاحق التريندات الجريئة، مراهقٌ كان يحلم بخدمة مجتمعه، صار يحلم بعدد المتابعين، وكل هؤلاء لم يتغيروا فجأة، بل زحف التغيير إليهم عبر آلاف المقاطع التي تشجّع، وتكرّر، وتُلمّع، حتى انزلقت الشخصية نحو ما لم تكن تظنه يومًا “هي”.
– هنا، لا يكون الخطر في التغيير نفسه، بل في غياب الوعي به. فالتغيير الصامت أخطر من الثورة الجارفة، لأنه يتسلّل متخفّيًا في هيئة المتعة والضحك والعفوية.
* من الشاشة إلى السلوك: رحلة التأثير
في علم النفس، هناك ما يُعرف بـ”التكييف السلوكي”، وبما أنني درست علم النفس التربوي والاجتماعي وعلم النفس من منظور إسلامي في دراساتي العليا، أصبح لديّ شيئًا من المعرفة بمَ وكيف يتأثر ويتشكّل السلوك، فالإنسان يتعلّم الاستجابة للمواقف بناءً على ما يراه ويكرره، فإذا رأى أن الغضب يجلب الانتباه، سيغضب أكثر، وإذا لاحظ أن الجرأة الزائدة تجلب الإعجاب، سيتخلى عن الحياء شيئًا فشيئًا، وهكذا تتحول الشاشة إلى مرآة مضخّمة، لا تعكس فقط، بل تُعيد تشكيل السلوك نفسه، نحن لا نُقلّد فقط، بل نُعاد برمجتنا بصمت.
* تغيّر في الانفعالات والعواطف
– لا يتوقّف التأثير عند السلوك، بل يصل إلى أعماق الشعور، المتابع الدائم للمآسي والعنف يفقد قدرته على التعاطف، والمتلقّي المستمر للمقاطع السطحية يجد نفسه غير قادر على الصبر أمام كتاب أو حديث عميق. حتى الحبّ… يُصبح سريعًا، سطحيًا، هشًا.
– ومع كثافة المحتوى وتنوّعه، يضعف الإحساس بالثوابت، ونبدأ بالتعامل مع الحياة كأنها مقاطع قصيرة: مشاعر سريعة، انطباعات فورية، ثم قفزة إلى ما بعدها.
* هل نحن كما نحن، أم كما نُشاهِد؟
– السؤال المرعب في هذه المعادلة هو: من نحن فعلًا؟ هل نحن من نعتقد أننا عليه؟ أم نحن نتغيّر ببطء، لتصبح شخصيتنا أقرب لما نستهلكه، لا لما نؤمن به؟
تمامًا كما يتأثر الجسد بالطعام الذي يدخل إليه.
– الإجابة تحتاج إلى صدق مؤلم، فمن يتأمل نفسه بعد عام من الاستهلاك المكثف سيلاحظ: نظرتي تغيّرت، ذوقي تغيّر، حديثي تغيّر، حتى مزاحي تغيّر… وأنا لا أعرف متى ولا كيف!
* الوعي هو الحصن الأخير
– نحن لا نملك إغلاق العالم، لكننا نملك اختيار الباب الذي نُدخله إلى عقولنا، لسنا مجرّد متابعين، بل مُمكّنين، نستطيع أن نختار، أن نوقف، أن نحذف، أن نعيد توجيه البوصلة، فشخصياتنا ليست مادة خام مباحة، بل مسؤولية عظيمة، وكل ما نُشاهده، يُضيف حجرًا في بنائها، أو يقتلع طوبة من أساسها.
– فاحذر أن تكون صورتك اليوم مجرد مرآة لما تشاهده… لا لما تؤمن به…ولكم مني كلّ تحيةً وسلام

* وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: ” من الترفيه إلى التبلّد: رحلة التحول من إنسان حسّاس إلى متفرج بارد”

* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1934)
* 19. شوال . 1446 هـ
* ألخميس. 17.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق