الرئيسيةمقالاتمنظمة همسة سماء

من ملف أبحاثي ومحاضراتي لطلاب الدراسات العليا موضوع الأخلاق وعلاقتها بالعلم والشعر ” الجزء الثالث ” علاقة العلم والشعر بالأخلاق

العلم من أهم ركائز المجتمعات وعناصر نهضة الأمم والشعوب كونه يبني الأفراد والمجتمعات ويسهل لهم أمور حياتهم، أما الأخلاق فهي تحصن الفرد وتقوي الفرد فالعلاقة بين العلم والأخلاق علاقة تكاملية فلا أثر طيب للعلم بدون أخلاق ولا أخلاق صحيحة من غير علم يبصّر ويرشد لأنه العين المبصرة للأخلاق

يعد العلم من أهم العوامل التى أسهمت فى تطور الشعوب وتقدمها عبر التاريخ، حيث كان التطور العلمى فى شتى المجالات يلقى بظلاله على نمط الحياة الذى يعيشه الناس، كما أسهمت العلوم وتأثيراتها فى تخليد العديدِ من الحضارات الإنسانية من خلال وصول منجزات هذه الحضارات الإنسانية إلى الأمم التى تلتها، فالمصريون القدماء برعوا فى الهندسة المعمارية، وتمكنوا من بناء الأهرامات العظيمة بالاستفادة من علمهم بأصول البناء والمعمار، كما كان لهم بصمة واضحة فى علم التحنيط من خلال حفظ بعض جثث ملوك المصريين القدماء إلى عصرنا هذا، ولا تخفى براعتهم فى العلوم الطبية من خلال ما تم الكشف عنه وصفات طبية قديمة كان يتم استخدامها فى علاج العديد من الأمراض.
أما الأخلاق فهى ترتبط بالعلم ارتباطا وثيقا، وتجعل النتاجات العلمية تتخذ مسارًا إنسانيا لا يلحق الضرر بالإنسان أو الحيوان أو النباتات، فالعديد من الأبحاث والدراسات العلمية التى يتم العمل عليها تهدف فى النهاية إلى تدمير علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ووضع المنظومة الأخلاقية جانبا وتجريد الإنسان من صفاته الإنسانية ليصبح أداة للقتل والتدمير، وهنا يأتى دور الأخلاق فى إعادة تشكيل مفهوم العلم، وربط ما يتم إنتاجه علميا بما يعود على الإنسان بالخير والمنفعة.
كما أن الأخلاق الحسنة للعلماء تعد من أهم الصفات التى يجب على العالم أن يتمتع بها، ولا يقتصر هذا الأمر على علماء الدين، فالعالم حسن الخلق يؤثر بهذه الأخلاق على تلاميذه، وهذا ما يجعل التلاميذ يجلون العلماء، ويعطونهم قدرهم الذى يستحقونه، ومن أبرز أخلاق العلماء أنهم لا يكتمون علمهم، ولا يستغلونه فى تحقيق المصالح الشخصية على حساب الآخرين، ولا يتخذون من مكانتهم العلمية سببا للتكبر على الناس أو التقليل من شأنهم، وينبغى على الأمة أن تحترم العلماء، وأن تساعدهم على تطوير منجزاتهم العلمية، وهنا يأتى دور الجهات الرسمية والخاصة فى تقدير العلماء وتكريمهم فى حياتهم من خلال الإشادة بإنجازاتهم، واطلاع الناس على ما قدّموه فى سبيل تطوير الحياة الإنسانية.
وهكذا فإن العلم والأخلاق هما الوجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن نستغنى عن أى منهما لكى يتقدم المجتمع، فبدون الأخلاق تنهار الأمم ولا تتقدم، وبدون العلم يتقهقر المجتمع ويتخلف عن ركب التقدم،
الأخلاق هى التى تجبر الأنسان على الالتزام بعمله وتنفيذه على احسن حال، فلا يمكن ان نجد طبيب ناجح يمتلك العلم ولا يمتلك الاخلاق الحميدة، التى تساعده على النجاح، لهذا فإن على الدولة أن تهتم بالتربية السليمة للأجيال القادمة، كما تهتم بتعليم الأجيال القادمة، فلا يتسق العلم بدون اخلاق.

إن من أعمق الكتب التي شهدها مجال النقد الفني، كتاب «لاوكون» للشاعر الناقد الألماني «لِسِنْج»؛ فلقد فصَّل القول في بيان التفرقة بين الفنون موضحًا كيف أن لكل فنٍّ مجالَه الخاص لا تظهر عبقريتُه إلا فيه. فإذا كانت هذه التفرقة واجبة بين فنٍّ وفن، مع أن الفنون أبناء أسرة واحدة، فالتفرقة أوجب بين الفن من جهة وما ليس بفنٍّ من جهة أخرى. فلو أراد فنُّ الشعر أن يكون رسالة أخلاقية ضاع منَّا الفنُّ والأخلاق معًا.
وعندما أراد لسنج أن يحدد مجال الشعر قال إنه الفعل، سواء كان ذلك الفعل فعلًا لكائن حي أم كان فعلًا لكائن من كائنات الطبيعة من غير الأحياء. ولما كان الفعل في طبيعته سيرة من أحداث تتعاقب على فترة من زمن، كان الحدث الزمني هو لبُّ الشعر وصميمه، فليس من مجال الشعر أن يصف شيئًا ثابتًا في مكان؛ لأن ذلك من شأن التصوير، وإنما الحركة هي مجال الشعر وحركة الحياة بصفة خاصة؛ ولذلك فلا عجب أنه إذا كان من شأن التصوير والنحت أن يجمدَا موضوعاتهما لتسكن فيها الحركة عند لقطة ثابتة، فإن من شأن الشعر أن يحرك موضوعه حتى لو بدا في ظاهره شيئًا ساكنًا. ومن هنا نرى الشاعر يتحدث إلى الأشياء وكأنها في وجدانه كائنات حية يحدِّث الجبل والبحر والسحاب والهواء، كما يحدِّث ناقته وجواده، فضلًا عن حديثه مع الأناسي من الموتى أو من الأحياء؛ فالكون كلُّه في وجدان الشاعر مفعمٌ بالحياة لأنه متدفق بالحركة، ولولا الشعر — كما يقول العقَّاد — لظلت الطبيعة خرساء كما تحب أن تراها النظرة العلمية. يقول:
والشعر ألسنة، تفضي الحياة بهاإلى الحياة، بما يطويه كتمان
لولا القريض لكانت — وهي فاتنة —خرساء ليس لها بالقول تبيان
ما دام في الكون ركن للحياة يُرىففي صحائفه للشعر ديوان
فلئن كانت النظرة العلمية تجعل الإنسان جزءًا من الطبيعة، تجعله ظاهرة من ظواهرها، فإن الشعر يجعل الطبيعة جزءًا من الإنسان، تحيا بحياته، وتنشط بفاعليته، ليس فيها عنده شيء موات.
يقول لنا الشاعر بشعره: هذه هي الحياة وهذا هو نبضها كما أحسُّه، وإن لم يستطع أن يحسَّه معي سائرُ البشر أجمعين، فماذا يقول الأخلاقي؟ إنه يقدم لنا المبادئ المطلقة الثابتة ليقول لنا: هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه الحياة البشرية، والفرق بين ما هو كائن في تصور الشاعر، وما ينبغي أن يكون، هو الفرق بين الشعر والأخلاق.

الأخلاق تأمر، والشعر يفسر، بماذا يأمرنا شعر المتنبي أو شعر أبي العلاء، مع أنهما الشاعران اللذان وصفهما القدماء بأنهما حكيمان، وبين الحكمة ومبادئ الأخلاق وشيجة قربى، بماذا يأمرنا شعرُهما؟ إنه لا يأمرنا بشيء، ولكنه يزيدنا فهمًا لطبائع البشر.
الشعر كاشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها، لا يفرق في ذلك بين خير وشر، إنه يكشف الغطاء عما لا تراه العين العابرة من طبائع الناس، وإنه لمن عجب أن هذا الإنسان في وسعه أن يعلوَ إلى أسمى مدار الفضيلة، كما في وسعه كذلك أن يسفل إلى أحط مهاوي الرذيلة، ومهمة الشعر أن يغوص إلى الأعماق الخبيثة ليرى الرواسب على القاع، فيُخرجها من حالة اللاشعور المبهم الغامض، إلى حالة التصوير الواضح، ليرى الإنسان نفسه كما هي. إن الشاعر إذ يصور لك فردًا معيَّنًا، أو حالة شعورية خاصة، من حبٍّ أو كراهية أو غضب أو رضى، فهو يقدم لك العام في الخاص، وهذا هو موضع الإعجاز في جيد الشعر؛ إذ هو يقدم لك حالة مفردة، ولكنها في الوقت نفسه تصلح أن تكون نموذجًا تفسر به سائر الحالات.
الأخلاق تنهانا عن الرذيلة وتحضُّنا على الفضيلة، أما الشعر فيفتح أعيننا على منابع الرذيلة والفضيلة معًا. فإذا كان عملنا بهذه الينابيع يقوِّم سلوكنا من تلقاء نفسه بلا وعظ صريح، كان ذلك هو الجانب الأخلاقي من الشعر.
الشعر محايد، يصوِّر لك العبقريَّ والأبله على حدٍّ سواء، فهو كالشمس تُشرق على الكائنات بغير تمييز. وإنه لخطأ شائع بيننا أن يُقال عن الشعر إنه تعبير عن نفس صاحبه، لكن هذا التعريف الضيق قد ينطبق على قلة قليلة من الشعر الغنائي، أما الشعر من الضروب الأخرى فلا شأن له بنفس صاحبه، لأن نفس الشاعر من حيث هو فردٌ واحد، ليس لها كلُّ هذه الخطورة في حياة الناس، وأقرب إلى الصواب أن نقولَ إن الشاعر بعبقرية الفن في فطرته يُعطينا من نفسه الحالة الخاصة، فإذا هي تصوير للإنسان من حيث هو نوع بشري متجانس الأفراد.
وإذا كان الشاعر يعبِّر عن نفسه هو، فكيف أمكن للشاعر المسرحي — مثلًا — أن يسوق في مسرحية واحدة حشدًا من الأنفس المتباينة، فأي هذه الأنفس تكون نفس الشاعر؟ في أي الأشخاص الذين صوَّرهم شيكسبير يعبِّر الشاعر عن ذاته؟ أهو ترويلس العاطفي الساذج (في مسرحية ترويلس وكرسيدا) أم هو هكتور الفارس النبيل؟ أهو يوليسيز ذو الفكر الناصع، أم هو كاسندرا التي ترى العالم قاسيًا لا رحمة فيه؟ إن الشاعر يقدم هؤلاء وغير هؤلاء لا يقول عن أحد منهم إنه أخطأ أو أصاب؛ وذلك لأنه لم يكتب ليدعوَ إلى شيء بعينه، وإنما كتب ليكون شاعرًا.
هن أخوات ثلاث: العلوم والفنون ودنيا السلوك؛ العلوم قانونها الحق، والفنون قانونها الجمال، ودنيا السلوك قانونها الخير، وعلى رءوسهن تقوم الحضارة، كما يقوم المثلث على أضلعه الثلاثة، تلتقي الأضلاع عند الرءوس، لكن واحدًا منها لا يلغي واحدًا.

يتبع الجزء الرابع ..

مفهوم الأخلاق عند أفلاطون
والمصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق