مكتبة الأدب العربي و العالمينشاطات

أسطورة الناي الحزين

إبراهيم الجريدي

في قديم الزمان عاش ملك عادل وبناته الثلاث في مملكته المليئة بالخيرات .. ذات يوم وفي منتصف الليل انتفض الملك مفزوعاً من شيء جعله يهجر مضجعه وينادي الحراس والخدم .. فلم يكن ما رآه الملك شبحاً او حيواناً مفترساً بل كابوس رهيب أرقه واستولى على فكره طوال اليوم ..

وعلى إثر هذا الكابوس جمع الملك بناته وروى لهم مايقلقه .. فقد كان يحس بدنو اجله واقتراب موعد الزائر الاخير الذي سيبقي مصير مملكته وبناته غامضاً مبهماً .. قال الملك لبناته : “اني اريد ان اعهد بولاية مملكتي لأكثركن ذكاء واشدكن حباً لي وللناس ، فاذهبن في صباح الغد الى تلك الغابة القريبة ولتحمل كل واحدة منكن سلة ، فمن عادت قبل شقيقتيها وسلتها ملأى بالفريز الغض الطازج فسوف تكون لها المنزلة الاولى في قلبي وسوف تجلس على هذا العرش بعد وفاتي ”

استبشرت الأميرات فرحاً و غاب على بعضهن المغزى الحقيقي للمهمة ولم يكن الملك يعلم ان مهمته قد تسبب الفساد بين بناته الثلاث.. وفي صباح اليوم التالي قام الملك حزيناً منقبضاً من حلم راوده .. فقد رأى اغلى مجوهرات تاجه يغتصبها لصان واجمل حملانه يأكله حيوانان مفترسان ..

خرجت الاميرات الى الغابة عندما فردت الشمس اجنحتها فوق التلال الخضراء تحتضن كل منهن سلتها على امل ان تعود قبل شقيقتيها وسلتها مملوءة بالفريز الغض الطازج .. وعندما وصلن الى الغابة مالت الشقيقة الكبرى بسلتها وقالت : “امتلئي ياسلتي بالفريز لكي يكون التاج ملكي انا وحدي وليس لأخوتي “.. ولكن سلتها ظلت فارغة ولم تحصد شيئاً .. ثم مالت الاميرة الوسطى ورددت نفس الكلمات ولكن سلتها ظلت فارغة ايضاً .. ثم مالت الصغرى بسلتها وقالت بصوت هادئ وواثق : ” امتلئي يا سلتي بالفريز لكي يعرف ابي كم احبه وأكون الاولى في قلبه ” ..
مثل السحر بمجرد ان انتهت الاميرة من كلماتها امتلأت سلتها بالفريز الشهي الغض ، وحاولت الشقيقتان البحث عن بعض الثمار المتناثرة على الارض ولكنهما لم تعثرا الا على الهزيلة والتالفة منها.. امتلأ قلب الشقيقتان بالحقد على اختهما فانقضا عليها كوحش مفترس مزقا ثيابها وضرباها حتى الموت ..

دفناها تحت شجرة قبقب ومهدا المكان لإخفاء معالم جريمتهما .. ثم كست الشقيقتان وجهيهما بمسحة حزن مزيفة وركضتا الى القصر تصرخان وتولولان حتى وضعتا ملابس اختيهما الممزقة والمغطاة بالدماء امام والدهما وهما تتصنعان الذعر والخوف واخبرتاه ان حيوانان مفترسان التهماها دون ان يكون باستطاعتهما فعل شيء لها ..

صعق الملك من خبر ابنتيه فقد رأى حلمه المفزع يتحول الى حقيقة .. تملكت الحسرة قلبه ومزق رداءه وخرج راكضاً الى حديقة القصر ينادي باسم ابنته المقتولة ويهيل التراب على رأسه وقد قطع صوته سكون المكان وجعل الطيور تهجر اعشاشها من عويل بكائه ..
مرت الأيام وحال الملك تنتقل من سيء لأسوء فانصرف عن شؤون المملكة وانعزل في قاعة صغيرة ولم يعد يستقبل احداً وتحول صوته الذي كان يزلزل قاعات القصر الى همس خافت غير مفهوم بينما استولت الجانيتان على السلطة في انتظار موت ابيهم واقتسام مملكته فيما بينهما

في يوم ما مرّ راعٍ شاب بجانب شجرة القبقب فرأى غصناً جديداً نابتاً في احد افرعها فقطعه وصنع منه ناياً .. وعندما انتهى الراعي من صنعه وقربه من فمه بدأ يعزف عليه ، لكن لحن الناي لم يكن اعتيادياً فقد انطلق منه صوت حزين يقول :” اعزف ايها الراعي ليعرف كل من يسمع اني كنت اميرة واصبحت الان ناياً ، ناياً مصنوعاً من غصن قبقب” ..

عاود الراعي العزف على الناي بأساليب مختلفة ولكنه في كل مرة كان يصدر ذات الصوت الحزين .. شاع خبر الناي الحزين في طول البلاد وعرضها حتى وصل الى القصر الملكي وطلبت الاميرتان من الملك ان يستدعي الراعي ليسمعوا بأنفسهم ويروا ذاك الناي الحزين ..

لم يكن الملك يبالي بشيء على الاطلاق ولكنه اذعن لإلحاح ابنتيه وامر بإحضار الراعي .. ومثل الراعي على الفور امام الملك والاميرتين واخذ يعزف على الناي وهم يستمعون له باستغراب ودهشه دون ان يلمح احد معنى هذه الشكوى الحزينة ..

وطلب الملك ان يجرب بنفسه العزف على الناي المسحور ولكن اللحن الحزين الصادر منه تغير قليلاً هذه المرة فقد ازدادت نبرة الحزن وضوحاً واصبحت تقول : ” اعزف يا ابي ليعرف كل من يسمع اني كنت اميرة واصبحت ناياً مصنوعاً من غصب قبقب” ..
وقبل ان يفهم الملك معنى هذا اللحن التقطت احدى الاميرتين الناي وعزفت ليصدر نغمات مزجرة تقول : “اعزفي ياقاتلتي ليعرف كل من يسمع اني كنت اميرة واصبحت ناياً مصنوعاً من غصن قبقب” .. عندئذ عرف الملك الحقيقة فأمر بقطع رأس المذنبتين وان يكون الراعي الذي ظهر الحق على يديه هو الملك القادم للبلاد ليقيم فيها العدل والنظام .. ثم انسحب هو بهدوء الى المقبرة التي دفن فيها زوجته وابنته الصغرى .. (النهاية)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق