مقالات

حكاية لا تنتهي .. رياض الصلح

لو رأيتني يا عزيزتي وأنا أقطف التوت الأسود وألتهمه بشراسة عن الشجرة المحاذية لبيتي هذا الصباح .. باكورة الموسم الصيفي .. وأنت تعلمين كم أحب الصيف وأعشق معانقة الشجر وأتلذذ دوماً بالتوت الذي لا يصبر كثيراً بعد نضوجه..

ليت دماغي يتوقف عن لعنة الثرثرة يا عزيزتي .. فلا أعرف ما الذي استدعاه ليتحدث بألم عن العنصرية أو الفوقية أو ظلم الكائنات البشرية .. كانت مجرد توتة سوداء عبثت بها يدي والتقطت صورتها عيني كفيلة في قلب مزاجي ووجوم نفسي طيلة اليوم .. لعنت في ذاتي فوقية اللون الأبيض على باقي الألوان .. تذكرت القارة السوداء المستعبدة .. همجية المستعمر الأبيض وهو يفسر أحقيته الوجودية وأهليته في استخدام أملاك الضعفاء لبناء مملكته الفاضلة التي ستعلق إطار صورته على جدارية الكون الطامح للتقليد والتبعية ..
ليتني أكملت طريقي ولملمت بصري ولم ألتفت إلى سواد التوت تلك اللحظة .. لقد تعكّر صفوي بالكامل.. حاولت محاسبة جيناتي الوراثية إن كانت تحمل في ثناياها بعض الصفات التي أمقتها في استعلاء الإنسان الأبيض .. تساءلت باستهزاء واتهام .. من أنت حتى تقرر أو تقترح على الآخرين الطريقة الفضلى للعيش .. ومن أنت حتى تفرض أحلامك أو أفكارك على أي إنسان .. من أنت حتى تعتقد بأنك الوحيد الذي يحتكر الشمس .. من أنت حتى تغرق الآخرين بالتعاطف الزائد .. أو الاهتمام المصطنع .. في محاولة بائسة لإقناع نفسك أنها تستحق أن تكون لطيفة وجميلة في مظهرها .. وأنت أنت مثل باقي الخلق .. لا يهمك إلا نفسك .. ولن تتخطى دوائر الاهتمام إلا فيما يتعلق بك أو يخصك ..
صدقيني يا عزيزتي أنني أدخلت نفسي بتلك اللقمة في متاهة معضلة فلسفية تستهلك بالتفكير أضعاف ما تمنحني إياه من سعرات حرارية .. وأنا أعلم يقيناً بأنها لن تتجاوز قشرة جمجمتي .. ولن تساهم عاصفتي في هدم واقع الحياة الذي نحياه منذ الأزل فلست من المشاهير الذين يحتكرون الحقيقة أمام الملايين من المصفقين البلداء .. قصة مؤلمة مكررة .. ضعيف خامل مفعول به يشبه الجماد الذي لا يتحرك إلا بفعل فاعل .. وفاعل لئيم لا يتورع عن الاستغلال وحب السيطرة والاستفادة قدر الممكن من ذلك المفعول به .. فالغاية والمصلحة تبرر كل الوسائل المتاحة .. تنافس الفاعلين فيما بينهم لقسمة الغنيمة وتبادل الأدوار .. والأدهى من ذلك هو تنافس الضعفاء كذلك على خدمة الأسياد والافتخار بالانتساب لفاعل معين دون فاعل آخر مع أن الفعل واحد ..
قصة قديمة بعراقة الإنسان يا عزيزتي .. حتى صارت واقعاً له ما له من المؤيدين والمدافعين والمنظّرين .. بل صارت له مدارس وفلسفة ومباديء تفرض نفسها بنفس الطريقة التي يفرضها الواقع .. فلا بد من صناعة الضحية والجلاد والمعركة والمنافسين لصناعة حبكة مغرية وتجربة شيّقة سيتشرف التاريخ الإنساني لاحقاً بكتابتها كما قد كتب على شاكلتها الكثير..
ليتني يا عزيزتي بعد أن أُرهقت من الغرق في هذا الترف الفكري الذي عطّل عليّ سائر يومي.. لو ارتضيت على نفسي التخفف من حمل أثقال الكرامة الذاتية التي تملؤني حتى أخمص قدميّ .. ليتني أستطيع فعل ذلك لأتمتع برفقةٍ كثيرة هائلة ترقص بحرارة في ملهى الحياة وتتقن قواعد اللعب والرقص دون اعتراض .. بدلاً من هذا التعقيد المستمر في المسيرة الطويلة الشاقة على من هم أمثالي الذين تصيبهم لقمة توت خلقت للاستمتاع .. بغُصّة قلبية مزمنة تطيح بهدوئهم أرضاً ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق