فلسطين تراث وحضارهمقالات

أليكسا خوري خسرت قصرًا، واكتسبت إرثًا في مدينة حيفا

د. جوني منصور

د. جوني منصور 

لم تتوقّع أليكسا خوري أنّ القصر الذي نشأت وترعرعت فيه في حيفا سينتقل إلى مصلحة السكة الحديد الانتدابية في الثلاثينيات من القرن الماضي على أثرِ الديون المتراكمة عبر السنوات، على عائلتها أدّت إلى خسارةٍ في التجارة والأملاك. ولكن لم يكن من المحتّم يزول القصر إلّا أنهُ هُدم بمِعول النظامِ الاستعماريّ الاسرائيليّ فيما بعد النكبة. ومع ذلك حكاية القصر خلّدتها مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي عثرنا عليها في أحد ألبومات العائلات الحيفاويّة. في هذا الألبوم ظهرت صور عديدة للشابة أليكسا خوري، ومن خلالها نستطيع أن نجول في معالم معينة للقصر في داخلهِ ومن خارجهِ ومحيطهِ القريب.

أليكسا خوري هي ابنة لعائلة بيروتية الأصل في لبنان. وصلَ أباها سليم خوري إلى حيفا في سبعينيات القرن التاسع عشر. وعمل مترجماً فورياً في القنصلية الفرنسية، كما عمل في التجارة البينية داخل فلسطين وخارجها، وبعد أن كسب مبالغ جيّدة من الأموال قام بشراء مناطق تجارية وسكنية في مدينة حيفا، بالإضافة إلى ذلك، قام بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في العديد من المناطق، بما في ذلك منطقة الخضيرة جنوبيّ مدينة حيفا، وكذلك على قمة جبل الكرمل، وفي  موقعي قرية القامون المهجّرة (حيث أقيمت مستوطنة يوكنعام على أراضيها) والياجور. وإثر نجاحه في جني هذه الثروة قام بنقل مركز حياته ونشاطه من بيروت إلى حيفا. ومع اقتراب القرن التاسع عشر من الأفول، ساهمت هذه العائلة بإنشاء كنيسة مار لويس المارونية في المدينة.

وشيّد سليم خوري في عام 1908 مبنى سكني خلّاب في حيفا، في المكان الذي بُني فيه لاحقًا “برج الأنبياء” اليوم، في الطرف الشمالي من شارع الأنبياء حيث يتصل بشارع الخوري. أصبح المبنى يُعرف باسم “قصر الخوري”. وقد تمّ بناؤه على طراز انتقائي متعدد الفنون والتيارات – التوجهات العمرانية، دامجًا بين الحداثة والتقليد الشائع. ويتكون من طابقين وسقف مزين بالقرميد. وامتدت حول القصر حديقة كبيرة محاطة بسور مرتفع. وكان يمكن رؤية القصر من قمة جبل الكرمل ومن المدينة التحتا. وبعد أن فقدت الأسرة ممتلكاتها، تم بيع المنزل إلى يهودي وتأجيره لـ “إدارة سكة حديد فلسطين الانتدابية”.  واستُخدم حتى عام 1948 لهذه السكة. وخلال هجمات منظمة “الهاغانا” على مدينة حيفا خلال معارك العام 1948 وقعت فيه معركة فاصلة، كان النصر حليف “الهاغانا” وأشعلت في طوابقه النيران بهدف تصفية المدافعين عن المدينة. وبقي هذا القصر متروكًا كما هو دون ترميم، ولكن افتتح مجددًا بعد ذلك، إلى حين صدور قرار من بلدية حيفا بهدمهِ وتسويتهِ بالأرض في مطلع ستينيّات القرن الماضي، وتشييد مبنى تجاري مكانه.

نظرةٌ من الداخل نجد أعمدة القصر من المعدن الحديديّ تمّ إحضارها من أوروبا عبر باخرةٍ رست في ميناء حيفا العثماني يقع قرب سكّة الحديد الحجازية. أما أرضية القصر فتمّ رصفها من الرخام الإيطالي الشهير باسم “كرارة”، نسبة إلى منطقة بنفس الاسم في جبال الألب، وتحديدًا نوع هذا البلاط هو “كرارا سينسو ستريكتو”، يُعتبر من الأنواع الفخمة وذات الجودة العالية من بين عشرات من رخام “الكرارا” من تلك المناطق في إيطاليا.

وتكسو بعض مساحات من أرضيات قصر الخوري قطع من السجّاد الفارسي والأفغاني الثمينة جدًا. أمّا الأثاث الذي استعملته العائلة فمستورد من إيطاليا في معظمه ومكسوّ بالجلود الثمينة ذات القيمة المالية العالية. في حين أنّ الواجهة الرئيسية المطلّة على ميناءِ حيفا والبحر الأبيض المتوسط فكانت من أشغال خشبية قام بها نجارون مهرة من أهالي المدينة، بحيث جعلوها ثلاثية، أي الباب الرئيس المؤدي إلى الشرفة المطلّة على ذاك الميناء والبحر، وعلى جانبيهِ من اليمين واليسار شُباكان يعلوان على ارتفاع مترٍ فوق مستوى أرضية القصر ليلتقيا مع مستوى الباب الرئيس.

نستقي من هذهِ الصور الأرشيفيّة، أحوال بذخ ورفاهيّة وإسراف التي عاشتها عائلة خوري، فأملاكها كثيرة جدًّا، ومنتشرة في مدينة حيفا وخارجها، وقام بالخدمة فريق من الموظفين والعمال والمُيسرين لمجرى الحياة يوميا.

كانت والدة أليكسا تدعو سيدات المجتمع الميسور إلى لقاء أسبوعي عُرف باسم “الاستقبال”، وكانت تُقَدّم فيها أنواع كثيرة من الضيافة على الطريقة الأوروبية كالكعك والشاي والمرطبات. ويتبادلن الأحاديث الاجتماعية المختلفة التي تتصل بالحياة اليومية في المدينة، وما يشيع فيها من حكايات وأقاويل ونقل تفاصيل وما إلى ذلك كما جرت العادة.

والتحقت أليكسا بصفوفِ المدرسة الإنجليزية العالية للبنات الواقعة في شارع شبتاي ليفي (تم تحويل مبنى المدرسة إلى متحف حيفا)، تذهب إلى مدرستها بسيارة العائلة التي يقودها السائق الشخصي لوالدها. وتمضي ساعاتها بعد انتهاء الدوام المدرسي في المطالعة وتعلّم الموسيقى الغربية على يد موسيقي يحضرُ بشكلٍ خاصّ إلى القصر مرتين في الأسبوع، كما أن آلتها المفضلة هي “البيانو”. فكيف لا، وهذه آلة الأثرياء والطبقات المرفّهة.

لم تكن تعرف أليكسا أنّ العائلة قد غرقت في ديونٍ كثيرة ومعاملات في دوائر الاجراء لتصفية جزء من أملاكها. كما أنّها لم تعرف أنّ والدها وعمّها اللذين ورثا هذا الغناء الفاحش تشاركا في بيع مساحات من الأراضي التي امتلكتها العائلة لصالح جمعية تهيئة الاستيطان الصهيونية التي أدار شؤونها أحد أبرز وكلاء الحركة الصهيونية والصندوق القومي فيها وهو يهوشع حانكين. وساهمَ الأخير أيضًا، كما تبيّن لنا حتى الآن، في إقناع عائلة سرسق اللبنانية على بيع مساحات شاسعة من أراضي مرج بني عامر وأراض في مواقع أخرى من فلسطين.

ويجدرُ الذكر أن سليم الخوري صاحب القصر تزوج من ابنة ميشيل سرسق، وأهداها والدها عند زواجها ملكيّة أراضي في قرية وقامون باسمها. وهكذا أصبحت عائلة خوري (لبنانية الأصول) شريكة في هذه الملكية، إضافة إلى أملاكها في مستوطنة الخضيرة وبنيامينا وكركور والياجور والشلالة على جبل الكرمل وغيرها. بقيت أليكسا إلى جانب شقيقها وعائلتها في حيفا حتى عام 1948، بالرغم من فقدانها القصر، إلى أن حلّت النكبة فانتقلت إلى لبنان، إلى بيروت العاصمة والى قرية “بكاسين” مسقط رأس كبار العائلة قبل هجرتهم إلى حيفا.

د. جوني منصور

مؤرخ ومحاضر. صدرت له دراسات تاريخيّة بعدّة لُغات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق