والظاهر من هذا العنوان أن بوستل كان يستقبح الحروف العربية المستعملة في الكتاب، وإليك بعض سطور من صلاة «أبانا الذي في السموات» وقد طبعناها هنا لكي تظهر عجز المطبعة عن تكوين الحروف العربية ولما رجع بوستل إلى فرنسا جعل العلماءُ والأشرافُ ورجالُ الدين يترددون عليه، ويحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، وعيَّنه الملك سنة ١٥٣٨ مدرسًا للغات اليونانية والعربية والعبرانية، ووهبه منزلًا ومزارع وجيادًا، إلا أنه أغضب الملك عليه عقب نزاع بينه وبين سواه؛ فحرمه من عطفه وعطف الملكة، واضطُر إلى الفرار بعد أن فقد أملاكه وجياده، فخرج ماشيًا على أقدامه إلى روما، شاكرًا لله على الحرية التي لا يزال يتمتع بها. ومن ذلك الوقت تبدأ رحلاته العديدة التي دامت أكثر من عشرين سنة، ودخل الدير في روما كخوري، إلا أن الرهبان طردوه لأفكاره وتصوراته المدهشة المخالفة للتعاليم الدينية، ويزعم بعض المؤرخين أنه مكث في السجن مدة، مع أن البعض الآخر يقول إنه كان في فيينا، وهرب منها تحت جنح الظلام، وكان ذلك لمشابهته قسيسًا قتل قسيسًا آخر، فاضطر للهروب رغم أنه كان بريئًا.
١٠ ومن أوهامه الدينية أنه قال للناس إنه سيظهر مسيحٌ جديد في شخص امرأة، وقيل إنه بعد أن بحث في جميع أطراف العالم وجد هذا المسيح في شخص السيدة يوحنَّا بالبندقية، وقد لقبها (بوالدة الدنيا) و(حواء الثانية) وأصدر عنها النشرات، ووزعها في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهي كلها أوهام لا حقيقة لها؛ لأن السيدة تغلبت في الواقع على أفكاره بتسلطها عليه، وكان عنوان هذه النشرة
Les très merveilleuses victoires des femmes طبعت في باريس سنة ١٥٥٣.
وأما الدين الذي كان يميل إليه فهو الإسلام، ولم يكن يذكر سيدنا محمدًا ﷺ إلا بكل تبجيل واحترام، ويقول هنريكس استيفانس إنه وجد بوستل بجانب كوبري ريالطو Rialto في البندقية يَعِظ الناس بهذه العبارات: «ينبغي لكل إنسان أن يكون تابعًا لدينٍ صالح، ومعنى ذلك أن يكون له دينٌ مؤلَّف من مميزات الأديان الأخرى، سيما من الدين الإسلامي؛ ففيه من أجود الآراء وأحسنها.» وقد ذهب بوستل إلى الآستانة مرة أخرى، وساعده هناك سفير فرنسا، ثم سافر إلى الأراضي المقدسة، وازداد إلمامًا باللغات العربية والتركية والعلوم الرياضية، ولما رجع إلى باريس عُين أستاذًا لعلم الرياضيات، واللغات الشرقية بجامعتها سنة ١٥٥١، وكان ذلك ذلك بناءً على مساعي والدة الملك كاترينا دي مديسيس، والملكة مرغريتا ده نوفارا التي كانت تحترمه كل الاحترام، والتي لقَّبته «أعجوبة القرن»، وكان الملك شارل التاسع يناديه «بفيلسوفه الجليل».
وزعم بوستل أنه لن يموت، وأما من جهة اتساع معارفه وإتقانه سائر اللغات وكافة العلوم، فكان لا يدانيه في ذلك أحد، وكلما ألقى محاضرة في الجامعة كان ازدحام الطلبة والسامعين كبيرًا جدًّا، ولم يكن هناك أي مكان خاوٍ في قاعة الجامعة، وخطب الجمهور المتكاثر في فناء الجامعة فأدهش القوم بآرائه، ولما اشتعلت نار الحرب بين ألمانيا وفرنسا خاطب بوستل أمراء الألمان، وحضهم على الهدوء، وعرض عليهم اقتراحًا بتأليف لغة جديدة عمومية تفهمها جميع شعوب أوروبا كالفولبيك اليوم، وتعرَّف في روميا بمدير جامعة فيينا النمساوية العالم فيدمنشتتر، وهو الذي أوصى على بوستل أحسن توصية عند الملك فرديناند الألماني، وكان هذا الملك شديد الاهتمام بشؤون دراسة اللغات الشرقية، وخصوصًا العربية والتركية؛ وذلك لقرب حدود الدولة العثمانية من حدود النمسا، ولكي يتمكن من الحصول على رجال لهم إلمام بهذه اللغات، ليرسلهم سفراء وتراجمة لدى الدول الشرقية.
ولْنعُد إلى بوستل، فقد عيَّنه الملك فرديناند الأول أستاذًا لجامعة فيينا لدرس اللغة اليونانية والعربية سنة ١٥٥٢، إلا أن مدة إقامته في فيينا وتدريسه بها كانت لا تزيد عن ثلاثة أشهر لأنه هرب ليلًا من فيينا كما تقدم، وأصدر بوستل في فيينا خطبته الافتتاحية سنة ١٥٥٣ في كتاب سماه:
De linguae Phoenicis et Arabicae, vindobona 1553.
وهذا الكتاب نادرة من النوادر؛ لأنه أول كتاب طبع بحروف عربية في البلاد الجرمانية أي في فيينا، وكانت المطابع لم تبتدئ بمدينة هيدلبرج بطبع الحروف العربية إلا بعد تسعة وثلاثين عامًا بعد مطبعة تسيمرمان بفيينا،
١١ وهذا عنوان كتاب الخطبة الافتتاحية للأستاذ بوستل، وترى فيه الحروف المستعملة فيه:
وبعد غياب بوستل عن فيينا اضمحلت الطباعة العربية فيها، ومن مؤلفات بوستل التي أصدرها بعد سياحاته في الشرق:
-
Description et charte de la Terre Saincte، qui est la proprieté de Jésus christ, Paris 1553 (Röhricht, Bibliogr. geogr. Palaestinae [1553] Berlin 1890).
-
De la Republique des Turcs et des meurs et loy de tous Muhamedistes par Postel, Cosmopolite, Poitiers 1560.
-
Alcorani et Evangelistarum Concordia, Paris 1543.
-
Abrahami patriarchae liber Jesirah, Paris 1553.
-
Signorum coelestium vera configuratis, Paris 1553.
وقد اتُّهم مدة إقامته في باريس سنة ١٥٦٢ بالعصيان الديني، وجاء البوليس إلى منزله ليبحث عن كتبه، وقبض عليه وحُبس، وحُكم عليه بالنفي إلى دير ماري مارتان Couvent St, Martin ليعيش هناك تحت مراقبة الرهبان، وكان البرلمان الفرنسي قد بحث في أمره، والمظنون أن كتابه (فتوح النساء العجيبة) كان سبب سجنه، ويهمنا معرفة ما يقوله راهب دير سان مارتان الخوري مارييه Marrier.
في كتابه Histoire du couvent St. Martin (لم يُظهر أحد غَيرةً على الدين طول مدة إقامة بوستل في الدير أكثر منه، وكان من ولعه الديني، وخشوع نفسه أن الرهبان رأوه عندما انتهى من مراسم القداسة ووجهه مبلل بالدموع، وفي مجالس السرور كان كامل الوقار والبشاشة؛ فزاده ذلك جلالًا وهيبة؛ لأنه شيخ هرم ذو لحية بيضاء؛ فكان منظره يؤثر في الجالسين، وكان رنين صوته رائقًا يدخل إلى قلوب سامعيه، فيوقظ فيهم لهذا الشيخ شعور الإكرام والتمجيد، وكان كل من يحتاج إلى شيء علمي خاص بالشرق لا يسأل غير بوستل، فيجيبه وكله تواضع وخضوع. وخرج بوستل يتنزه في بستان الدير، وهو منهمك الأفكار يراجع في ذهنه ما وقع له من حوادث الدهر الغريبة وانقلاب أمور الدنيا، وبعدما اعترف بكل خطاياه توفي يوم ٦ سبتمبر سنة ١٥٨١، ودفن بقرب هيكل كنيسة العذراء البتول في دير سان مارتان، وينبغي لنا ألَّا نختم الكلام عن الأستاذ بوستل إلا بهذه الخلاصة: ومهما قيل عن ازدياد أغلاطه الناتجة عن آرائه في عصره القابل لكل اقتراح ديني أو فلسفي، فإنه كان بطلًا مقدامًا في لغات الشرق، وبالأخص في لغة العرب، ويَشكر همَّتَه المفرطة كلُّ من يحب هذا اللسان البديع، وها هي صورة بوستل:
وقد أسس هنري الثالث سنة ١٥٨٧ قسمًا لدراسة اللغة العربية بالمدرسة المسماة Institut de Franceبباريس، وأنشأ البابا جريجوريوس الثالث عشر مدرسة أيضًا للغات الشرقية تسهيلًا لأعمال المبشِّرين المرسَلين إلى الشرق، وكان في تأسيس هذه المدارس ما يبعث على الاهتمام بعلوم الشرق في أوروبا، خصوصًا أن وسائل النشر المطبعي في زمن لويس الثالث عشر كانت على أحسن منوال، وكادت تبلغ الغاية في الظرف والجمال. وقد أمر لويس الرابع عشر باستعمال الحروف التي وضعها المستشرق بريف Brèvesوأرسل إلى الشرق المبشرين والعلماء؛ لجمع الخطوط والمكتبات النفيسة ونشرها، أما منذ القرن الثالث عشر، فقد أصبحت لغات الشرق ذات أهمية عظيمة، وقام بين العلماء من اشتهر بمؤلفاته التي لا تزال معروفة حتى الآن، ولا يفوتنا أيضًا أن هولندا كان مقرًّا ممتازًا للدروس الشرقية.
المصادر …
تاريخ تعليم اللغة العربية في اوروبا