ثقافه وفكر حرفلسطين تراث وحضارهمقالات

رغيف الزعتر… سيرة ذاتية لكرامة الشعوب- بقلم: الباحثة ازدهار عبد الحليم الكيلاني

في زمن السبعينات، حين كانت الحوانيت قليلة والمخابز نادرة، كانت رحلة الرغيف تبدأ من الطبيعة نفسها. لم يكن “رغيف الزعتر” آنذاك وجبة عابرة، بل كان سيرة ذاتية تختصر حكاية الصبر والكرامة والتعب. تمامًا كما يسير القطار على سكّته بمحطات متعددة، يعبر رغيف الزعتر مراحل عديدة، تبدأ من الجبل وتنتهي في كفّ اليد.

كانت النساء والرجال يقطفون الزعتر من الجبال بعناية، لتبدأ أولى محطاته: القطف، ثم التشريط، فالتجفيف، وأخيرًا الطحن اليدوي، الذي كان يتم عبر ماكينات يدوية تقليدية. بعد ذلك، يُمزج الزعتر بالسمسم المحمّص والسماق، لتكتمل نكهته التراثية المميّزة.

ولم تكن هذه المكونات مجرد نكهات، بل كانت عناصر غذائية تحمل في طيّاتها فوائد جمّة؛ فالسمسم غني بالمغنيسيوم، وفيتامينات B6 وC، والألياف، ما يجعله داعمًا قويًا لجهاز المناعة، ومقاومًا للفطريات والعدوى. أما الزعتر، فهو علاج شعبي منذ قرون، يُنقّي الدم، ويقلّل الكوليسترول، ويساعد على مقاومة الأمراض. والسماق، بما يحمله من مضادات أكسدة قوية مثل التانينات، وفيتامين C، يزيد من القيمة الغذائية ويمنح الرغيف طعمه المتفرّد.

بعد تحضير الزعتر، تأتي رحلة القمح، والتي تبدأ من الحبة في الأرض، إلى الحصاد، فالطحن، فالعجن، ثم الخَبز، وصولاً إلى الرغيف الذي يصل ساخنًا إلى المائدة. هذه الرحلة ليست مجرد خطوات زراعية وغذائية، بل هي تجسيد حيّ لتاريخ من الكدّ والصمود.

رغيف الزعتر لم يكن يومًا مجرد طعام. كان مرآة لحياة مليئة بالتحديات. ففي كل لقمة حكاية، ووراء كل قطعة محروقة صرخة تعب لم يسمعها أحد. كانت تجاعيد الرغيف تشبه تجاعيد وجه فلاح أنهكته السنون، لكنها لم تنل من عزيمته. تلك التجاعيد تحوّلت إلى خرائط محفورة في الذاكرة، ترشدنا إلى معاني الصبر والحكمة، وتُذكّرنا أن الكفاح يُورّث كما يُورّث المجد، لا بالأقوال، بل بالأفعال.

لقد علّمنا هذا الرغيف أن الحياة ليست رفاهية، بل جهد وكفاح وكرامة. فهو ليس فقط طعامًا، بل رمزًا لصراع الإنسان من أجل البقاء، ومن أجل الأرض، ومن أجل كرامة لا تُشترى بثمن. من نجا بالرغيف من نار الفرن، نجا كذلك من نار الفقر.

ويبقى الإنسان، مثل رغيفه، على شفا حفرة:
إما أن ينكفئ على ذاته فيستسلم،
أو أن يكافح لأجل أولاده، لأجل أرضه، لأجل كرامته.

الشجاعة في الصراع تضيء دروب الحياة، أما الاستسلام فيفتح أبواب الهلاك.
ورغيف الزعتر هذا، بكل ما يحمله من قصص وتفاصيل، يعلّمنا أن السعادة لا تكمن في المال أو المظاهر، بل في تقدير ما نملك، وفي احترام الذات، وفي صون الكرامة.

في النهاية، يبقى هذا الرغيف البسيط أبسط الحقوق وأعمق الرموز.
هو شهادة حياة… تُخبز بالتعب، وتُورّث بالفخر.

اترك تعليقاً

إغلاق