الرئيسيةثقافه وفكر حرمقالاتمنظمة همسة سماء
العربية هويتي …من سلسلة محاضراتي بموضوع اللغة العربية (بعنوان : تاريخ دراسة اللغة العربية في أوروبا)
فاطمة ابو واصل اغبارية
كانت لغات الأمم الشرقية مجهولة تقريبًا في أوروبا قبل الحروب الصليبية، وليس هذا بالمستغرب ، إذ أن كافة العلوم، وعلى الأخص الدينية منها كانت مقتصرة على الرهبان، تلك السلطة المهيمنة أنذاك . بينما حُرم أصحاب الأمر والنهي حتى من معرفة القراءة والكتابة، أضف الى ان السلطة التي كانت للباباوات في الكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت تبيح لهم السيطرة على كل شيء يختص بالكتب، وبمقتضى ذلك استطاعوا أن يمنعوا انتشارها مهما كان موضوعها، ولم يكن في استطاعة أحد أن ينشر أي كتاب إلا إذا كان باللغة اللاتينية، وبإذنٍ خاص من البابا، ويرجع فضل دراسة اللغات الشرقية في الحقيقة إلى المرسَلين المبشرين الموفَدين إلى البلاد الشرقية من لدّن الباباوات؛ فهؤلاء هم الذين حملوا معهم عند رجوعهم إلى بلادهم تلك اللغات.
وقد كانت المجادلة في العلوم والآداب ضمن اختصاص دائرة الأكليروس المسيحي وكانت حكراً عليهم ، واختصوا بها، ومنعوا الجمهور من تداولها، وفي الحقيقة أن الكتب الشرقية المدونة في مختلف المواضيع قد ترجمها إلى اللاتينية الرهبان فقطولم يسمح لغيرهم بالترجمة .
ويدلنا على اهتمام الرهبان بالكتب، وعنايتهم باستطلاع ما دوِّن في بطونها؛ أنهم كانوا يتحملون مشقة الترجمة أولًا، ثم يكتبونها بيدهم بصبر وجَلَد مهما استدعى ذلك من الوقت، ولم يكن فن الطباعة الذي ظهر في القرن الخامس عشر الميلادي بواسطة جوتنبرج، والذي عاد على البشر بأكبر فائدة، قد اكتُشف بعدُ، ولم يكن الراهب من أولئك الرهبان ليكتفي بإجادة الخط أثناء النسخ فحسب، بل إنه كثيرًا ما أضاف الزخرفة والألوان في كتاب اشتغل فيه طول حياته.
وآثار هؤلاء الرهبان الأدبية تُظهر لنا قيمة المجهودات التي بذلوها في سبيل العلم وتهذيب الفكر البشري، فلا غرو إذن إذا رأينا علماءنا ومحبي الكتب القديمة يتسابقون إلى اختطاف مجلداتهم النفيسة مهما بلغ ثمنها.
كان النصارى بعد عهد المصلح الكبير الراهب «مارتن لوثر» ينظرون إلى الأمم الشرقية نظرتهم إلى شعبٍ مُتمدْين ذا حضارة، بعكس ما كانوا يفعلون قبل تلك الحروب.
وقد تطورت عقيدة المسيحيين نحو الشرقيين بعد ظهور الراهب مارتن لوثر، فأخذوا في تعلم لغاتهم حبًّا في العلم لذاته، وخدمة للحقيقة، وميلًا لآداب اللغات، لا لغرض ديني أو سياسي أو تجاري كما روج البعض.
أما اللغة العربية، فقد ذاعت شهرتها ولهجتها العذبة، حين بدأ الرهبان وبعض عظماء المسيحيين ينزلون إلى بلاد الأندلس وجزيرة صقلية وفلسطين؛ حيث شاهدوا هندسة المباني العربية البديعة الدالة على حضارة عجيبة، وحين اطلعوا على النقود الإسلامية التي ضُربت بغاية الإتقان، بعكس ما كانت عليه نقودهم من البساطة، ومن ذلك الحين شرعوا في معاشرة العرب والتقرب إليهم، وقد كانت الكتب العربية التي نَقلت من مؤلفات أرسطو وأمثاله، من أهم البواعث على تشجيع النصارى في اقتطاف ثمار ما أنتجته المدنية الإسلامية أيام عظمتها، ومجدها، وقد فتحت مجلدات العلامة أرسطو عيون النصارى، كما فتحت عيون العرب قبلهم، فتسارعوا إلى استطلاع غوامضها سعيًا وراء اقتباس حكمة ذلك الفيلسوف.
وكان أول من نشر آراء أرسطوطليس، ومذهبه بين قومه العلامة:
ألبرت الكبير
ولد ألبرت الكبير سنة ١١٩٣ من أبوين فقيرين في بلدة لوينجن في ألمانيا، وتوفي سنة ١٢٨٠، وكان فقيرًا يتطفل على موائد أهل كرم، ويستعين بما يصيبه منهم على الدراسة، غير أن إعراض قومه في ذلك العهد عن العلم وكل ما يتصل به لم يُتَحْ له نيل القوت الضروري، بيد. ان الفقر. والعوز الذي لازمه لم يمنعه من الإقدام على تحصيل العلم؛ فدخل أولًا مدرسة بادوا بإيطاليا؛ ونظرًا لآرائه الخاصة، وعلامة النبوغ التي كانت تبدو عليه، لم يوفق إلى الإقامة في المدرسة المذكورة؛ فغادرها، ثم جعل قبلته شطر ألمانيا، وهناك الْتحق بدير الرهبان الدومينيكان بمدينة كولونيا، ثم في ريجينز برج، وأخيرًا اشتراسبرج، وقد كان في كل دور من أدوار صباه مثال الجد والنشاط، ولم تكن دائرة العلم التي حصر حياته فيها تساعده على تغذية فكره بما انطبع عليه من الحرية المطلقة؛ فترك اشتراسبرج وذهب إلى باريس موطن النبوغ العلمي والآراء الحرة، وكانت تضم في ذلك الوقت كثيرًا من العلماء، ولما تخرج من مدرسة باريس، وَفَاق أقرانه، وذاع صيته في الفلسفة وعلوم الدين، استُدعي إلى ألمانيا، ورُشح لمنصب أسقف سنة ١٢٦٠؛ فتوجه إلى منصبه في ريجينز برج، وقام على إرشاد قومه ووعظهم مدة غير قليلة، حتى ترك منصبه وذهب إلى بولونيا، ليشتغل بالدرس بعيدًا عن الناس، وقد أدهش جميع معاصريه بسعة مداركه وسمو آرائه ومعلوماته، لا سيما في الكيميا والعلوم الميكانيكية؛ حتى إنهم لقبوه دكتورًا عامًّا (دكتور يونيفرسال)، ويدلنا على رغبته في نشر آرائه، وتعميمها بين العالم أنه جمع كل مخطوطات أرسطو، والمباحث الموضوعة في كتب التفاسيرالبيزانطينية واليهودية والعربية، وكان يقتبس من كتب الفارابي، وابن سينا، والغزالي؛ فكانت آراؤه التي أظهرها في كتبه الفلسفية مطابقة تمامًا لآراء أرسطو، ويمكننا أن نعتبره رسول هذا الفيلسوف الكبير في ذلك الوقت، وكان كتابه المسمى (الخلاصة اللاهوتية الواقعية )والمطبوع أولًا سنة ١٤٧٣ منتشرًا جدًّا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في مجلدات كثيرة.
على أن الآباء المرسلين المبشرين لم تظهر آثار مجهوداتهم إلا في القرن السادس عشر بعد الميلاد، ومن ذلك الوقت أخذ نبوغ ألبرت يتجلى بأكبر مظاهره، فلما اتسعت دائرة المعارف شرع المبشرون في إدخال لغات أخرى إلى ميدان أبحاثهم، وقد كان لليهود فضل يُشكر في نشر الكتب العربية، ويليهم بعد ذلك مسلمو المغاربة الذين تنصروا بحكم سيطرة الدول الأوروبية.
ومما هو جدير بالذكر، أن همة المغاربة كانت من البواعث الرئيسية على تطرق فلسفة العرب إلى أسلوب المنشآت المستعملة في الكنيسة الكاثوليكية من سنة ١١٣٠ إلى سنة ١١٥٠؛ إذ حوَّرَت تقاليد الدراسة الدينية التي روعيت فيها النظم العتيقة المعارضة للنهضة العلمية القائمة بأوروبا قبل القرن الثاني عشر، وقد برزت فلسفة أرسطو على الآراء وطرق التفكير العتيقة؛ فكشفت الغوامض وفسرت المعضلات التي لوحظت إذ ذاك في الكتب المسيحية.
وهكذا انتشرت آراء أرسطو في أوروبا بواسطة اختلاط الإفرنج بالعرب في الأندلس وصقلية، وكان هذا أول العهد بالدعوى إلى اقتباس أساليب التعليم على الطريقة الفلسفية؛ لوضوحها وسهولة إدراك أسراراها. ولما كانت العلوم العربية المترجمة عن كتب أرسطو وغيره كافية للتعبير عن الضمير وحل المعضلات، اهتم الأوروبيون بفلسفة أرسطو سعيًا وراء الحقائق؛ وبذلك حلوا ألغاز ومعميات كتبهم التي رسخت في عقول المتدينين والمتعصبين، وهذا هو السر في اضطرار الرهبان إلى دراسة اللغة العربية؛ كي يستطيعوا القيام بأداء المهمة الملقاة على عواتقهم، وكي يحوزوا ألقاب «مستشرقين»، وبالرغم من ذلك لم تكن التراجم اللاتينية من الكتب العربية ذات أهمية، خاصة في ذلك العهد، حتى ولد سنة ١١١٤ جيرارده كريمون وقد أمعن هذا العلامة في الاطلاع، وترجمة الكتب القيمة، ومما ترجمه كتاب «كناش» وكتاب «الأحجار» لأرسطو وغالينوس، وكتاب «في علم النجوم» لجابر بن أفلح، وكتاب «الطب» لابن سينا، وكتاب آخر في الأدوية ليحيى بن سرابي، فهذه الكتب كلها مهدت السبيل لانتشار العلوم العربية في أوروبا، ويليه بعد ذلك في الترجمة العلامة بطرس الذي لقبه معاصروه بالمحترم.
يتبع ……بطرس المحترم
تتبع … المصادر كاملة