مقالات
بانوراما سردية في رواية أحمد عمر شاهين الكاتب والناقـد/ ناهــض زقــوت
هذه الدراسة كانت معدة لإلقائها في ندوة (أحمد عمر شاهين: بين التجربة السردية والكتابة النقدية) ضمن ملتقى فلسطين السادس للرواية العربية المنعقد في رام الله من 10 إلى 14 تموز 2023، وذلك يوم الثلاثاء 11/7/2023 حسب برنامج الملتقى في قاعة جامعة فلسطين التقنية – خضوري – رام الله. ولكن لظروف خاصة لم أتمكن من السفر وتقديمها، ولمزيد من المعرفة أنشرها.
***
أحدثت النكبة الفلسطينية في سنة 1948 تفتيتاً للنسيج المجتمعي الفلسطيني الذي كان كامناً ومستقراً على أرضه، فأصبح الأب في منفى، والابن في منفى، وباقي العائلة في منفى آخر، وقد يتجمعون لاحقاً في مخيم واحد، أو تبقى المنافي عنوان حلهم وترحالهم.
لم تكن الرواية الفلسطينية بعيدة عن وصف الحالة الفلسطينية خلال النكبة، والتداعيات بعدها، فقد عبرت ومازالت عن تأثرها بالأوضاع السياسية – الاجتماعية للشعب الفلسطيني, وبهذا الجانب تعد الرواية شهادة الفلسطيني أمام العالم عما يعانيه ويلاقيه في سبيل دفاعه عن نفسه وعن وطنه وعن حقه في الوجود. والروائي الفلسطيني لم يترك فعلاً من أفعال النكبة إلا وأتى على ذكره, وقدمه سرداً في لوحة لغوية – تشكيلية – فنية.
كان الكاتب الفلسطيني أحمد عمر شاهين واحداً من هؤلاء الفلسطينيين الذين فرقت الحرب بينه وبين عائلته، فإذا كانت النكبة هجرته مع عائلته من يافا إلى خان يونس، فقد كانت نكسة 1967 سبباً في التفريق بينه وبين عائلته، هو في القاهرة، والعائلة في خان يونس.
الكاتب الروائي/ أحمد عمر شاهين من مواليد مدينة يافا/ سكنة أبو كبير، محلة كرم التوت سنة 1940م. هاجرت عائلته من يافا عام 1948م إلى قطاع غزة ليستقر بهم المقام في مخيم خان يونس. تلقى دراسته الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة الغوث بالمخيم، وأنهى الثانوية العامة القسم العلمي سنة 1958م. التحق بكلية الهندسة في جامعة أسيوط بمصر، ولكن لظروف مالية قاسية ترك دراسة الهندسة، وعاد إلى قطاع غزة ليعمل مدرساً في المدارس الحكومية في خان يونس. ثم حصل على الثانوية العامة مرة أخرى/ القسم الأدبي، وانتسب لجامعة القاهرة لدراسة التاريخ، واندلعت حرب حزيران عام 1967م أثناء تأديته الامتحان النهائي في جامعة القاهرة، ولم يتمكن من العودة إلى قطاع غزة، فأقام في حي السيدة زينب بالقاهرة حتى وفاته.
في القاهرة عمل في مجال التعليم، والترجمة لمؤسسات عربية ومصرية، وفي مؤسسات منظمة التحرير وخاصة دائرة الثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبعد فترة استقال من التعليم ليتفرغ للكتابة. وقد قضى حياته عازباً.
كان نشطاً في المجال الثقافي والأدبي قبل سفره إلى مصر، فقد نشر العديد من المقالات والقصص ومسرحيات الفصل الواحد في جريدة أخبار فلسطين التي كانت تصدر في غزة في الفترة من 1963-1967م. وفي مصر شارك في العديد من الندوات واللقاءات الأدبية، وساهم في طباعة كتب دائرة الثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال دار الثقافة الجديدة في القاهرة.
أبعدته الحكومة المصرية في زمن الرئيس الراحل السادات إلى العراق عام 1978م، على إثر اغتيال يوسف السباعي، ولم ينسجم في الأوساط العراقية، فقرر العودة إلى مصر، وغادر العراق، ليعتصم مدة 17 يوماً في مطار القاهرة حتى سمحت له السلطات المصرية بالدخول إلى مصر بعد تدخلات من الكتاب والأدباء المصريين.
توفي في القاهرة عام 2001م بعد إصابته بنوبة انخفاض حاد في السكر، وشيعه الكتاب الفلسطينيون والمصريون إلى مثواه الأخير في مقبرة منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة.
بعد وفاته، فتحت وصيته التي كتب فيها أنه يتبرع بكل مكتبته إلى مكتبة عامة في خان يونس، فقامت بلدية خان يونس في عام 2004م بإنشاء مكتبة عامة تابعة لها في مبنى كبير وسط خان يونس ضم مكتبته التي كانت عامرة بأكثر من خمسة آلاف كتاب.
كان عضواً في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وعضواً في الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين بالقاهرة، أصدر أحد عشرة رواية، ومجموعتين قصصيتين، وترجم وحرر ما يزيد عن أربعين كتاباً من أمهات الكتب العالمية من اللغة الإنجليزية إلى العربية، بالإضافة إلى كتابات أخرى.
***
يعد الكاتب أحمد عمر شاهين من جيل كتاب رواية السبعينات، وهو الجيل الذي شهد التحولات السياسية والاجتماعية في المجتمع العربي وخاصة مصر إثر نكسة 1967، حيث انفرط حلم هذا الجيل بالأفكار القومية والآمال والرؤى التي كان يطرحها جمال عبد الناصر، ووصل إلى ذروة انكسار هذا المجتمع بتوقيع الرئيس السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979. في ظل هذه الاجواء التي ما زالت آثارها قائمة خرجت الرواية العربية تحمل انتقاداً حاداً للواقع في بعديه السياسي والاجتماعي، وعبرت في مضمونها عن التجسيد الواقعي لأحوال المجتمع، وفي التعبير عن الايديولوجيا السائدة وتحولاتها، واقتربت من الأسلوب التسجيلي التوثيقي.
تشكلت شخصية الروائي أحمد عمر شاهين الأدبية والثقافية في الأجواء المصرية بعد أن استقر في القاهرة بعد هزيمة 1967، وكان قارئاً نهماً، ومترجماً بارعاً، كل ذلك ساهم في بلورة شخصيته الروائية، فكتب الرواية التي تجسد فعل النكبة بكل تداعياتها من تهجير ونفي وشقاء اللاجئين ومعاناتهم في المخيمات، والارهاب الصهيوني لتهجيرهم، وبث من خلالها مشاعره وأحاسيسه ورؤاه، كما أبرز الأفق الجديد المتمثل في انطلاق الثورة الفلسطينية، وصورة الفدائي المقاوم من أجل التحرير.
يافا .. الذات والآخرون:
عندما تقرأ روايات أحمد عمر شاهين تشعر كأنه ساكن في النص، إذا لم يكن هو بطل السرد. كانت يافا تسكنه كهاجس قلق، وكحلم طويل مستمر منذ تهجيره قسرياً، وكان آنذاك ابن الثمانية أعوام، يعي ما يدور حوله، فترسبت الذكريات في اللاوعي لتنفجر بعد سنين حبراً على الورق. فكتب الروايات التي تستحضر يافا لتكون شاهدة على ما حدث عام 1948 للفلسطينيين.
يفتتح تجربته في الكتابة الرواية بالحديث عن يافا التي كانت حلمه المتواصل في العودة إليها، ولكنه تكسر على عتبات حرب النكسة عام 1967. وعبرت رواياته الأخرى عن قضايا وهموم الواقع الفلسطيني والعربي، وموقف العرب من الفلسطيني وتعاملهم مع قضيته سواء على المستوى السياسي أو الشخصي، وانتقاد الأنظمة العربية في تعاملها مع الفلسطيني الذي يصل إلى حد المقارنة بينها وبين سجون الاحتلال الاسرائيلي، كما يطرح علاقة المثقف بالسلطة، ودور هذا المثقف نحو الجماهير الواقعة تحت نير الارهاب والتسلط، ومن خلال هذه الرؤية ينطلق ليشير إلى علاقة المثقف الفلسطيني بالدول والشعوب العربية التي ساهم في انتعاشها وعودتها للحياة الحضارية.
إن رواية أحمد عمر شاهين لا تخلو من النقد الاجتماعي، ويستطيع القارئ أن يدرس من خلالها البنية السياسية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني. وتبقى يافا هي محور الكتابة والانطلاق في كل أعماله الروائية، ولكنه خصها في ثلاث روايات تجسد يافا مكاناً وذكرى وحلم ومقاومة.
رواية/ وإن طال السفر:
كانت روايته الأولى (وإن طال السفر – الصادرة عام 1977) البداية في حلم العودة إلى يافا. وقد غلب على الرواية الواقعية التسجيلية التي تقوم في الأساس على الوعي التام بالمرحلة الزمنية التي ترصدها الرواية من النكبة عام 1948 إلى النكسة عام 1967. هذه المرحلة التي كانت أكثر ألما وقسوة على الفلسطينيين، فجاءت الرواية لكي تجسد معاناة اللاجئين بعد تهجيرهم من وطنهم، وقسوة الحياة التي يعيشونها في المخيمات التي وصفها في أبلغ تعبير عن أحوالها يقول: “أن الحياة كلها بهذا الشكل، بيوت قرميدية مهترئة، وحل ومياه قذرة، وكلام كثير يسمعونه عن الوطن في البيت والمدرسة .. ولا عمل، كلاب ضالة تجري أو تبحث في المراحيض العامة وصناديق القمامة عن بقايا طعام، قطط تموء، قدمي غاصت أكثر من مرة في قناة مياه راكدة”، حياة المخيم كريهة تعافها النفس البشرية، فالمخيم عبارة عن “دروب رملية ضيقة، تحيطها أكواخ إسمنتية متخاذلة تهب منها روائح لا تستطيع تمييزها، خليط من البول والبراز والبصل والسمك وماء الفاصوليا المسلوقة والمصارف المنظفة حديثاً، مجموعات من الأطفال تتسلق مجمعات القمامة نابشة فيها”.
تنقسم الرواية إلى جزأين، لكنهما متصلان فكرةً ومضموناً، كل جزء منهما يمثل مرحلة في تاريخ حياة اللاجئين ومخيم خانيونس مكان سرد الأحداث. الجزء الأول يتناول رحلة الهجرة واللجوء وصولاً إلى خان يونس، وتسلط الضوء على صور المعاناة اليومية في المنازل التي تم تجهيزها من وكالة الغوث خصيصاً للذين تركوا ديارهم هائمون على وجوههم لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون أجبروا على ترك أرضهم ليحل محلهم اليهود، وكاشفة عن قسوة الهجرة القسرية وتداعياتها على اللاجئين، فبدلاً من الاستمتاع بالطفولة، أجبرت قسوة الحياة (عصام) على العمل ليساعد والده رغم صغر سنه، فعمل في محل للحلويات، إضافة إلى دراسته، ليكون علاقات جديدة، وأصدقاء جدد، من خلال تبادل الكتب، فقد كانت القراءة والثقافة طريقاً لاستعادة ذكريات يافا وطريقاً للعودة، وتشير الرواية إلى مكانة الثقافة والكتب في هذه المرحلة، مع الاشارة إلى معالم مدينة خانيونس آنذاك بطريقة توثيقية: مركز البوليس، وجراج بامية للسيارات، وفندق الملك برقوق، وفندق أبو الكاس، وقلعة برقوق، وسينما الحرية الصيفي، ومقهى شلاطيف.
وفي نفس الوقت يبرز صور التحدي لمواجهة هذه الحياة، فلا يهم – كما يقول- أن يقف في طابور لملء “صفيحة” الماء، أو “جرّة” من الفخار لينقلها إلى منزله، ولا يهم أن يقرأ على ضوء القمر، أو على “نوّاسة” تعطّل عدسة العين، أو تزكم الأنف من رائحة الدخان المنبعث منها، ولا يهم كل ما يعنيه بعد أن خسر البيت والأرض، وكل ما كان يهمه هو تشبثه بالأمل في العودة، فالتحق بالأحزاب السياسية التي بدأت في تنتشر قبل عام 1967 بين المثقفين من أحزاب قومية وشيوعية ووطنية، تستقطب الشباب تحت عنوان تحرير فلسطين، لتكشف الرواية أن تحرير فلسطين والعودة إلى يافا لا يكون إلا بالكفاح المسلح. لهذا تؤكد أن الوجود الفلسطيني في هذا “المعسكر/ المخيم” هو وجود مؤقت.
من هنا يأتي الجزء الثاني ليبرز التغيرات لدى الشباب من حياة تافهة مهمشة يعيشونها إلى مقاتلين، يحملون السلاح يدافعون عن حقهم في الحياة والعودة، نقرأ: “كم يتغير المرء، هل كنت أظن أو أفكر أن كل هؤلاء الشباب الضائعين قبل الحرب، من الممكن أن يكونوا بهذه القوة والعنف والتحدي”، وتقود المقاومة الحركات الثورية التي تساهم في توفير السلاح وتوزيعه على الشباب، وتوزيع النشرات الثورية التي تحرض على القتال، وتقدم الرواية استعدادات خان يونس للحرب من حفر الخنادق، وتوزيع السلاح، وتشير أنه رغم ايمان الشباب بالمقاومة إلا أن الاستعدادات لا تبشر بخير من طرف السلطة الحاكمة آنذاك، فالأسلحة التي وزعوها قديمة لا تصمد أمام أسلحة الجيش الاسرائيلي، فيقول: “ما العمل؟ الرصاص أمام المدفع! كل طلقة بعشر قذائف….”.
ويصف مشاهد خروج الناس من بيوتها نحو منطقة المواصي وشاطئ البحر هرباً من القذائف التي تتساقط على بيوتهم، صورة مكررة من هجرة 1948. يقول: “مات الكثيرون أثناء قصف البلدة بالمدافع المختلفة، هربت العائلات إلى شاطئ البحر مبتعدة عن أماكن القصف…”. وتصف الرواية أهوال الحرب وأحوال الناس والمدينة التي تحولت إلى مدينة أشباح “خان يونس موحشة، الخراب ينتشر في منازلها، المتاريس في الشوارع تسد الطرق الفرعية، البلدة تنزف، جراحها كثيرة، صوت الدبابات يصل إلى آذاننا من الشوارع الرئيسية، نلمح أثناء عبورنا لشارع فرعي بعض الجثث ملقاة في شارع البحر، لا نستطيع أن نفعل شيئاً لها”.
بعد خمسة أيام من القتال تدخل القوات الاسرائيلية البلدة لينتشر الرعب جراء القتل وقصف البيوت، والقتل الجماعي، ودفن الناس في قبور جماعية، وبحث الاحتلال عن المقاتلين واعتقالهم، وترحيل الشباب قسرياً إلى مصر. ورغم احتلال المدينة إلا أن المقاومة ما زالت مستمرة، فلم يفقد الأمل في العودة، كما قالت له خالته:” غداً سنرجع إلى يافا….” فيرد:” حتى الآن لم يُستخدم الطيران…. الحرب خدعة…”.
***
رواية/ زمن اللعنة:
تأخذ رواية (زمن اللعنة – الصادرة عام 1983) القارئ إلى الواقع الفلسطيني بعد الهجرة من يافا، وتوحد القوى الفلسطينية في جبهة متحدة في قطاع غزة لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي، يقودها عبد الكريم ابن يافا، المتمرس على القتال منذ أن شارك مع الثوار في الدفاع عن مدينته. والتي يؤكد من خلالها أن الشعب الفلسطيني يتمسك بالمقاومة طريقاً لتحرير يافا وكل فلسطين، وهذا ما كان يؤمن به الكاتب نفسه.
وينتقد السارد الشخصيات الانتهازية التي ارتبطت بالمقاومة والجبهة المتحدة، فقد كانت شخصية عبد الله أكثر الشخصيات ضرراً للمقاومة، فهي شخصية وصولية انتهازية لا يهمها النضال الوطني ومقاومة الاحتلال بقدر ما كان يهمها بروز ذاتها وشعورها بالسيادة على الآخرين، وبعد أن درس الاحتلال شخصيته استطاع أن يزرع لديه اثنان من الجواسيس لجلب المعلومات عن المقاومة وافشال عملياتها، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمته المنظمات اليهودية قبل النكبة، فكانت شخصية موشى بائع القماش هي الجاسوس على أهالي يافا حيث كان يدخل بيوتهم ويطلع على أسرارهم.
وإلى جانب خط المقاومة لم ينسى يافا، فيعود إليها بعد أن يلتقي عدنان الكرمي أخ عبد الكريم مع حاييم ضابط المخابرات الاسرائيلي في غزة، وكانت ثمة علاقة غير أخلاقية ربطته مع هذا اليهودي وأخته راشيل وهم أطفال في يافا قبل النكبة، وقد سببت معرفته الكثير من الازعاج له، ويحاول أن ينسى هذا التاريخ الوسخ، ولكن وجوده في غزة ولقائه أعاد له الذكريات بعد اعتقال ابنه. دفعه حاييم بعد تهديده أن يجلب ابنه سامي للقاء في تل ابيب، وكان الهدف قتل سامي والاستفادة من أعضائه، فيخضع عدنان للأمر مضطراً، ويخبر أخيه عبد الكريم بالأمر الذي يحميه وينقذ سامي، وهذا دلالة على قدرة المقاومة على حماية الشعب وانقاذه من نكبته، وتأخذ الأحداث منحى يرتبط بالممارسات الاجرامية التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
عندما يصل يافا بعد سبع وعشرين سنة من الهجرة، وهو زمن سرد الأحداث الروائية. يستعيد يافا بعد نكبته، فلا يجدها فقد أصبحت ضاحية لتل أبيب، وبيوت ومعالم البلدة القديمة مهدمة، وتغيرت أسماء الشوارع، وامتلأت بالملاهي والنوادي الليلية، لكن حيهم باق لم يتغير، ويشير إلى ابنه عن ذكريات المكان حيث يعرفه على محتويات المكان: “هذا بيت الحاج اسماعيل الذي نسف، باق كما هو، حتى الردم لم يرفع، وهذا هو الكُتاب حيث حفظت القرآن، وهذا بيت خالك، دكان أخي، بيتنا”. لقد أصبح بيتهم مهجور ينعق فيه الخراب بعد هجران سكانه، مكان موحش، خيوط العنكبوت تغطي معظم المكان.
لقد كان الاحساس بالوطن لدي السارد يشوبه الخوف والحزن والرهبة، وشعور بالوحدة، فلم يعد هذا المكان صالحاً للسكن فقد تحول إلى خرابة على أيدي الاسرائيليين، واستعادة هذا المكان كما يقول السارد: “لم يزل بينه وبين هذا الوطن عقبات وعقبات”، والمقاومة هي القادرة على ازالة هذه العقبات.
***
رواية/ بيت للرجم بيت للصلاة:
بعد ما يقارب اثني عشرة سنة يعود الكاتب إلى يافا في رواية (بيت للرجم بيت للصلاة، الصادرة عام 1989) ليقدم يافا بعد النكبة. نشعر أن أحمد عمر شاهين مسكون بالمكان ومقيد بسطوته، وهاجس القلق المسيطر على ذهنه يقول إذا لم نستطع العودة إليه، فلا بد أن نحفظ للأجيال الجديدة ملامح الهوية للأرض التي استهدفها الاحتلال الاسرائيلي بالمحو والازالة من الوجود.
في هذه الرواية كان حضور المكان فاعلاً وأساسياً، فالأحداث تتمحور حول المكان، من هجرة اللاجئين من يافا، ووقت هجرتهم وأعدادهم، والأهوال التي مرت عليهم، والأدوات التي ساهمت في اقتلاعهم من تواطؤ غربي إلى خذلان عربي. كما يعيد وصف الأماكن بكل تفصيلاتها وصفاً بالغ الدقة، قبل الهجرة وبعد الهجرة. لهذا كان الزمن لا يسير في خطاً منتظماً عنده، بل كان متذبذباً في سرد الأحداث، فقد افتتح روايته بحاضر النكبة، وسار الراوي بالأحداث متراوحاً بين الحاضر والماضي، ويتخلل السرد تداعي الأفكار والرؤى، فتستدعي اللحظة الحاضرة الماضي القديم، وهذا السرد يتطلب من القارئ إعمال فكره وحضور ذهنه لمحاولة استيعاب تسلسل الأحداث.
بعد أن غادرت عائلة الشواهدي مدينة يافا، يتسلل أحمد الشواهدي من السيارة التي تقلهم قبل تحركها لكي يجلب كتبه وألعابه من البيت، فتغادر السيارة ولم يكتشف أمره إلى بعد تجاوزهم لمستعمرة نيتر، فلم يستطيعوا العودة لأن اليهود يطلقون النار على كل المهاجرين المارين من أمام المستعمرة. فعاش في بيت أسرته المكون من أربعة طوابق، وقد حاول اليهود الاستيلاء على البيت، ولكنه رفض مغادرته، وتدخل خاله إبراهيم وصديقه اليهودي شلومو لدى السلطات، فسمحوا له بالإقامة في الطابق الأول من البيت.
تقدم الرواية من خلال السارد كل الأحداث التي مرت بها يافا أثناء الحرب، وكيف كان اليهود يعربدون في الشوارع، وكيف انطلقت المجندات اليهوديات يهتفن في الشوارع: “إحنا بنات الهاجاناه فين العرب تلقانا”. ويعيد رسم المكان بكل ما يحتويه من أحياء، وشوارع، ومحال تجارية ومعالم ثقافية، وأسماء دور السينما الحمراء والفاروق قبل هجرة سكانها، والتغيرات التي أحدثها اليهود على المدينة من تهويد للأماكن، وسرقة البيوت، والاستيلاء عليها، ولم تنج من ذلك حتى البيوت التي بقي فيها أصحابها، يقول السارد: “فوجئنا ذات يوم بمن يحاول فتح الباب علينا، جرت أم عبده (مربية السارد وقد جاءت لتطمئن على أهله فوجدته وحيداً وقررت البقاء معه)، ولما سمعت طرقاً على الباب خرجت لتفتح فوجدت عائلة يهودية ومعها مندوب دائرة الاستيعاب والهجرة كما قدم نفسه ويريدون الاستيلاء على الشقة. ويستطرد السارد قائلاً: “ضاعت الشقة وضاع البيت، وكأني هاجرت تماماً، كأن أبي كان يشتري الأرض ويبني البيت كي نهديه إلى أسرة يهودية أتت من آخر الدنيا لتطردنا وتسكن فيه”.
يستقر الحال بالسارد أحمد في يافا ويرفض مغادرتها رغم كل المضايقات التي واجهها من اليهود. يتزوج من ابنة خاله، ويعمل مع خاله في الصيدلية، ليكتشف أن خاله يعمل في تجارة المخدرات مع صديقه شلومو. وبعد مقتل خاله أصبح هو التاجر الذي يعتمد عليه شلومو، ورغم رفضه نفسياً لهذه التجارة إلا أنه خضع للأمر الواقع، فاستغل موقعه وصداقته مع شلومو في شراء السلاح وإرساله للمقاومة.
يافا لم تعد عروس البحر المتوسط، بل أصبحت بؤرة فساد تحت أعين وبصر السلطات التي يمثلها شلومو، تجارة المخدرات والدعارة والرشوة. يصف السارد ما تركته الحرب من آثار مدمرة على مدينة يافا، فقد دمر جزء كبير من المدينة التي أهملت لتنمو مدينة تل أبيب على حسابها، وتحولت مبانيها الجميلة إلى نواد ليلية وبيوت للدعارة وفنادق تسمع فيها كل لغات العالم إلا اللغة العربية. وبعد أن كانت صيحات الأطفال في الشوارع محمد وعلي، وكم الساعة الآن، والسلام عليكم، وصباح الخير، ولو سمحت وعفواً، وآسف، لا يسمع الآن سوى أسماء عزرا وأبراهام وديفيد، وماهشاعه أخشاف، وشالوم، وبوقر طوف، وعيريف طوف، وبيفكشا، سليحا، أني مستعير. لقد أصبح الفلسطيني غريباً في بلده، وعاش على هامش الحياة في إسرائيل.
ورغم شعور الفلسطيني بالاغتراب إلا أن ثمة أمل في التغيير من خلال الشباب العرب الذين يرفضون كل الممارسات اليهودية الشاذة، وانتشار المخدرات في الوسط العربي، وكذلك الدعارة، فكان مصطفى الملقب بالنص ابن الشيخ أبو العنين يقود المقاومة داخل يافا ويروع المدمنين العرب، ويساهم في قتل كل يهودي يحاول نشر الفساد في المجتمع العربي.
بعد نكسة حزيران 1967 فتحت الطرق بين يافا وغزة، قرر أحمد زيارة غزة لهدفين: الأول زيارة أهله، والثاني الاتفاق مع رجال المقاومة على تسليمهم شحنة سلاح. يتدخل شلومو لتسهيل حصوله على تصريح دون أن يعلم بموضوع السلاح. يصل غزة ويصف مشاهداته في الطريق إلى خان يونس بأسلوب توثيقي تسجيلي، نلمس من خلال أوضاع اللاجئين القاسية في المخيمات، وتداعيات النكبة وأثرها على اللاجئين، يقول: “كل البيوت قرميدية ومن دور واحد ومبنية بالطوب الاسمنتي، تقف متخاذلة، تخرج منها نتوءات يبدو أنها أضيفت إلى المبنى الرئيسي مما جعل الأزقة متعرجة، تهب منها روائح كريهة، مجموعات من الأطفال تتسلق مجمعات القمامة الملاصقة للبيوت، تلعب فيها مبعثرة محتوياتها مشاركة في ذلك أعداد من البط والدجاج، قاذورات حيوانية وآدمية منتشرة على الأرض أمام أبواب الصفيح، وتحت النوافذ التي تشبه كوى السجون”.
هذا حال اللاجئين بعد تهجيرهم من بيوتهم وأرضهم، لذلك عندما يصل بيتهم في المخيم ويقف أمام باب من الصفيح يقول في نفسه في رسالة إلى عائلته، وإلى كل اللاجئين: “إذن هذا هو البيت الذي استبدلتموه ببيتكم في يافا”، شعور بالحسرة والألم.
يوصل رسالته ويتفق مع أحد أقاربه الذي يعمل مع المقاومة على ألية توصيل السلاح لهم، ويعود إلى يافا. وفي نيته التخلص من تجارة المخدرات بعد أن أصبحت تجارة دولية إلى أوربا وأمريكا يشرف عليها شلومو وشرطتها تحمي التجار بل تساهم في نقلهم وتسهيل مهامهم، وهذا دلالة على دور اسرائيل في نشر المخدرات، بالإضافة إلى تصنيع الفيروسات والسموم. ومما زاد من قناعته بتركها عندما شاهد تاجر عربي من غزة يتفق مع شلومو على صفقة مخدرات، وكذلك طلب شلومو منه المساعدة المالية في صفقة مخدرات مع مصر. ويعرف من خلال أحد الأصدقاء الذي خرج من السجن بأنه سمع اثنين من اليهود داخل السجن يعترفان بقتل خاله إبراهيم، وعندما عرف اسميهما يخبر مصطفى النص بأمرهما، فما كان منه إلا الوصول لهما والتحقيق معهم وعرف منهم أن شلومو هو الذي حرضهم فقتلهم.
لقد أصبح شلومو الذي يرمز إلى اسرائيل يمثل خطراً حقيقياً على الحياة الإنسانية، فيجب التخلص منه حلاً لكل مشاكل أحمد، وهذا ما فعله دون أن يدري أحد من قاتله. وبعد مقتله يشعر أحمد بالراحة النفسية، وقال لزوجته: “عادت يافا يا سعاد”. فيخرج من بيته يحمل طلاء وفرشاة ويأخذ في شطب الأسماء العبرية عن الشوارع ويعيد لها الأسماء العربية، ويقذف نوافذ اليهود بالحجارة وهو يردد “حياتكم في هذه المدينة كحياة رجل يصر على الاقامة وسط طريق مزدحم، تدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومن بدايتكم لنهايتكم لم يكن ملككم سوى حادث طارئ في تاريخ هذه البلاد”.
إن نهاية الرواية تمنح القارئ فضاء مفتوحاً على الرؤية المستقبلية في كيفية عودة يافا، وتلك الرؤية تتزامن مع انطلاق الثورة الفلسطينية.