مقالات

رؤية 6 * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص” * عنوان المقالة: “الداعية الموظف: كيف يتحول الخطاب إلى وظيفة؟ ” (6)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* بين الرسالة والوظيفة
الخطاب الديني في أصله رسالة، لا مهنة، هو نذير وبشير، لا مرشد علاقات عامة، هو في جوهره ميراث نبوي، يحمل أمانة الإصلاح والصدع بالحق. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ (الأحزاب: 39).
لكنّ هذه الرسالة حين تتحوّل إلى وظيفة رسميّة في بلاط السلطان، تتراجع همّة التبليغ أمام هاجس التعليمات، ويغدو السكوت حكمة، والحقّ مؤجلاً، والنصّ رهينة سياق إداري، والعالم مُدجّنًا!
للأسف لقد تحوّل كثير من الدعاة إلى أدوات في منظومة الحكم، يُقدَّمون في الإعلام بوصفهم “العلماء الرسميين”، لكنهم في واقع الأمر موظّفون بزيّ شرعي، يلتزمون بما يُملى عليهم أكثر مما يلتزمون بما يُطلب منهم شرعًا، وهنا تبدأ المأساة: حين يصبح “قول الحق” خطرًا على “الوظيفة”.
* حين تُفرغ الدعوة من مضامينها
الوظيفة الدينية، حين يُختزل فيها الداعية إلى صورة ناطق باسم السلطة، تُنتج خطابًا زائفًا يكرّس الطاعة العمياء، ويُسهم في تخدير وعي الجماهير، يتلو الداعية النصوص، لكن يقتطعها من سياقها ليخدم السكون لا الحركة، والرضى بالظلم لا الثورة عليه.
يروي الإمام أحمد في المسند (11311) عن النبي ﷺ أنه قال: “أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عندَ سلطانٍ جائرٍ”. غير أن هذا الحديث يغيب من منابرهم، ويُستبدل بأحاديث الطاعة المجتزأة، كقوله ﷺ: “اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ” (رواه البخاري: 7142)، دون أن يبيّنوا شروط الطاعة وحدودها، كما قررها العلماء.
بهذا التوظيف الانتقائي، يصبح النصّ أداة لإنتاج الخنوع، لا لبناء الوعي، ويتحوّل الدين إلى خطاب آمن، منزوع الدسم، يزيّن الواقع بدلًا من تغييره.
* صناعة “الداعية الآمن”
في أنظمة التدجين، لا يُراد للداعية أن يكون ثائرًا على الباطل، بل “آمنًا” على النظام، مستأنسًا، لا يُقلق أحدًا. يُمنح مساحة يتحدّث فيها عن الحيض والنّفاس ومسائل الطهارة وبعض أحكام الزكاة، لكن يُمنع من الحديث عن العدالة والحريّة وحقوق الشعوب. وحين ينحرف الحاكم، يُطالَب بالصمت، أو بالتصفيق.
هذا تمامًا ما عناه أحدُ الخلفاء حين قال لبعض وعّاظه: “إياك أن تذكر لنا الموت، فإن قلوبنا لا تحتمل، وحدثنا عن فضل الصبر والطاعة!”، في دلالة على رغبة السلطان في ترويض الدين، لا التفاعل معه.
* حين يتكلّم الصمت
الخطر لا يكون دائمًا في “الفتوى الباطلة”، بل كثيرًا ما يكمن في “الفتوى الغائبة”، صمت الداعية عن ظلم واقع، أو تزيينه له تحت عنوان “درء الفتنة”، هو خيانة للدين. ألم يقل النبي ﷺ: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره” (رواه مسلم: 49)؟ فكيف إذا كان المنكر بحجم أمة تُستعبد، وشعوب تُنهب، وعدالة تُجهض، ونفوس تُزهق..؟
لقد ابتُلينا بخطاب يُبرّر الطغيان باسم الاستقرار، ويدعو للصمت باسم الفقه، ويجرّم الاعتراض باسم السكينة، ويُغضّ الطرف عن السارق باسم “ولي الأمر”!
* نحو استرداد الرسالة
نحن بحاجة إلى استعادة المعنى النبوي للخطاب الديني، إلى دعاة لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يسكتون عن الباطل اتقاءً لغضب مسؤول، إلى منابر تنطق كما نطق الإمام أحمد في وجه المأمون، وكما فعل العز بن عبد السلام حين باع أمراء المماليك في سوق العبيد لأنهم لم يُحرّروا أنفسهم من الرقّ السياسي.
إنّ الداعية الحقّ لا يخدم النظام، بل يحرّك الوعي، ويُقلق الطغاة، ويذكّرهم دومًا بأن فوقهم من هو أقوى. ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21-22).
فالدعوة وظيفة الأنبياء، لا كموظّفي البروتوكول. والموقف الحقّ لا يُحسب بالأجر الشهري، بل بثقل الكلمة في ميزان الله والتاريخ… فماذا تقولون أنتم؟ ولكم منّي كل تحية وسلام.

• عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الطاعة كهدف: الدين في خدمة الاستقرار السياسي ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1971)
* 27. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأحد . 25.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق