مقالات
الفلسطيني في رواية “لقاء البحر” للدكتور محمود السلمان
بداية ننوه إلى أن هذه الرواية هي الإصدار الأول لدار مرايا للنشر والتوزيع في إربد الأردن، وبما أننا أمام عمل تمت صياغته بلغة سهلة وبأسلوب سلس وبأحداث مفعمة بالمشاعر الإنسانية، حيث يتم تناوله في جلسة واحدة، كل هذا جعلنا نقول إننا أمام بداية موفقة لدار النشر.
الرواية تتحدث عن “أحمد” الفلسطيني الذي يقطن في مخيم في الأردن، حيث يقوم بزيارة بلدته “طيرة حيفا” في فلسطين المحتلة، وبما أنه يحمل ذاكرة خصبة عن المكان وساكنيه أخذها عن والدته ووالده “أبو يوسف” فقد كان وصوله إلى الطيرة يمثل حالة استكشاف/ تعرف/ مشاهدة لما هو متخيل، فالجنة التي سمع عنها ها هو يراها أمام عينيه، من هنا تبدأ المشاعر الإنسانية/ الوطنية بالتدفق.
أثناء تجواله يتعرف “أحمد” على “عمير” اليهودي الذي يعارض ما تقوم به دولة الاحتلال من أعمال بحق الفلسطيني، من هنا يقوم بمساعدة “أحمد” في التعرف على تفاصيل المكان وما فيه من معالم، فيدله على بيت عائلته الذي أصبح مركزا للشرطة وعلى بيت عمه، كما يذهب به إلى المغارة “لحف المغر” التي تُرك فيها شقيقه “يوسف” بعد الهجوم الصهيوني على البلدة حيث تركته أمه معتقدة أنه ميت، حيث كان القصف على أشدة والناس في حالة ذعر والجميع يبحث عن ملاذ يبعده عن شبح الموت.
يبدأ في البحث بمساعدة “عمير” عن أشخاص يستطيعون مساعدته في الوصول إلى شيء يدلّه على مصير شقيقه “يوسف” وأين دفن، وعن وزوجة أبيه “تمام” إلى أن يصل إلى كل ما يريد معرفته، فيجد أن شقيقه “يوسف” حي ويسكن مع زوجة أبيه في “تينة البستان” في “الدالية” وبهذا تتكلل رحلة “أحمد” بالنجاح حيث تم تحقيق هدفه، التعرف على بيته ومصير من تبقى من عائلته.
يقوم “يوسف” بزيارة عائلته في المخيم وهناك يتم التوقف عند مشاهد مترعة بالمشاعر الإنسانية، حيث يلتقي الابن (الميت) بأسرته، ويتعرف على المكان البائس الذي تقطنه، علما بأن بيتهم متسع وكبير ومشرف على البحر، لهذا تم تحويله إلى مركز للشرطة، بعدها يقوم بالعودة إلى فلسطين المحتلة ليكرس نفسه في توضيح مأساة الفلسطيني في التشتت واللجوء والاقصاء عن وطنه، عن بيته الذي بناه بيده وجهوده.
مشكلات الفلسطيني
ما يحسب للرواية أنها تعيد المسألة الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، فبعد أكثر من خمسين سنة من المأساة ـ حسب زمن أحداث الرواية ـ يعيدنا السارد إلى الهجرة وأسبابها وما تبعها من ألم وموت، وتشرد، وتشتت، وضياع، وفقدان وطن من أجمل الأوطان.
من المعيقات التي تقف أمام الفلسطيني التنقل والسفر، فبعد أن فقد وطنه أصبح تنقله يمثل معضلة، لكن في حالة “أحمد” الوضع مختلف، فهو يحمل جواز سفر أجنبي ويستطيع التنقل كيفما شاء، لكنه يريد الدخول إلى وطنه بصفة (سائح/ زائر) وليس بصفته عائد، لهذا نجد هاجس الخوف من عدم السماح له بعبور وطنه: “وصل شباك الجوازات، أدار وجهه كان الجندي يقلب أوراق جوازه، لا يريد أن يرى اللحظة التي يختم بها هذا الجندي جواز سفره، ويحدد بها مدة إقامته، ويجعل بذلك من العودة زيارة، هذا الشخص يقرر دخوله الذي لا يعرف أبوه أو جده شيئا عن هذا المكان كما يعرف أبو أحمد أو جده” ص15و16، وهنا ذروة المأساة، غريب يمنعك من دخول وطنك والوصول إلى بيتك، فالسارد بهذا المشهد أعاد (نبش) الجرح وما يحمله من وجع، فقد أيقظنا من حالة النوم/التخدير وذكّرنا بأننا ما زلنا (مرضى/جرحى) وبحاجة إلى علاج، فلنذهب إلى من يعيد لنا عافيتنا، وطننا الذي فقدناه.
بعد أن يصل “أحمد” إلى بيته/مركز الشرطة ويتفقد تفاصيله التي يعرفها يقول لمرافقه “عمير”: “إنه شيء قاس أن يغادر الإنسان مكانا يملكه، مستأذنا المغادرة من شخص لا يعرف حتى “وادي الفلاح” والحجارة التي جلبت منه لبناء هذا البيت” ص39، بهذه المفارقة بين صاحب المكان وبين من يحتله ويتواجد فيه تكمن مأساة الفلسطيني، فرغم أن “أحمد” لم يولد في بيته إلا أن والده أعطاه أدق التفاصيل بحيث يعرف كل شيء عنه وكيف تم بناءه، بينما حال (الساكن الجديد) كمن يتواجد في شقة في عمارة لا يعرف عن تفاصيلها أي شيء.
لم تقتصر معرفة المهجر الفلسطيني بالمكان، بل تتعداه إلى الناس، إلى أولئك الذين سمع عنهم حتى أصبحوا حاضرين وراسخين في الذاكرة، يقابل “أحمد” زوجة أبيه “تمام” بهذا الشكل:
“ـ من ثيابك استطيع أن أقول من أنت!
ـ أنا الحاجة تمام الملقبة بأم الهند.
ـ نعم، قال أحمد ذلك بدهشة أكبر، يعني أنت الحاجة تمام فعلا؟! قالها ثانية وهو يضمها بكل قوته.
ـ نعم نعم.
ـ “عمير” هذه الحاجة تمام التي أخبرتك عنها، هذه أمي، أنت أمي! بدأ يقول ذلك وهو يكاد يطير من الفرح والمفاجأة والسرور وعدم التصديق.
في هذه الأثناء أتى كل من كان في البيت على صوت الصراخ، وبدأوا ينظرون وهم لا يعلمون ما يجب فعله أو ماذا يحصل.
ـ زوجي أبو يوسف، زوجي، زوجي أبو يوسف، بدأت تكرر تلك الكلمة أكثر من مرة، وكأنها تريدها أن لا تكون في هذه الأثناء حقيقة أكثر منها، كأنها تريد أن تعوض كل السنين التي لم تقل فيها هذه الكلمات” ص 90و91، فكرة المشاهد واضحة للقارئ ويستطيع أن يصل إلى مأساة الفلسطيني التي بدأت مع وصول أول جندي إنجليزي إلى فلسطين وحتى قيام دولة الاحتلال وما بعدها،، لكن اللافت في هذا المشهد ليس الفكرة فحسب، بل الألفاظ التي استخدمها السارد، فتكرار زوجي جاء ثلاث مرات، وهذا الأمر يأخذنا إلى العقل الباطن للسارد الذي تماهى مع أحداث الرواية، فالتكرار ثلاثة مرات يحمل معنى الاستمرار، بمعنى أنه أكد مأساة الفلسطيني واستمراريتها حتى الآن.
كما نجده يستخدم ألفاظا مكونة من حرف الكاف: “تكرر، الكلمة/الكلمات، أكثر (مكررة)، وكأنها (مكررة)، يكون، كل” بمعنى أن العقل الباطن للسارد هو من يتحكم في السرد، فاستمر صدى “تكرار زوجي” على الألفاظ التي تتحدث عن المشهد، وبهذا يكون السارد قد أوصل حميمية اللقاء ليس من خلال فكرة المشهد فحسب، بل من خلال الألفاظ المستخدمة أيضا.
يقوم “يوسف” بزيارة أهله في المخيم، وأثناء عبوره الحدود يصل إلى نتيجة تلخص مأساة الفلسطيني، مأساته في المكان وفي السكان: “شعر بأن هذه الحدود لا تقسم المنطقة فقط جغرافيا بقدر ما تقسمها اسميا.
ـ صديقي، بقدر ما ظهرت حقيقة أنني أخو أحمد وأنهم لي، هي أيضا حقيقة أنني والأرض التي وجدوني عليها لهم!” ص116و117، وهذا يقودنا إلى طبيعة الصراع مع العدو، فهو صراع على الأرض وعلى الإنسان، فالعدو الذي استولى على فلسطين وحولها إلى “إسرائيل” عمل على تحويل من بقى من الفلسطينيين إلى إسرائيليين، وإلى جنسيات أخرى وحتى بلا جنسية، وهنا تكمن أهمية الرواية: إعادة الصراع إلى بداياته، وتأكيد حقيقته، حقيقة أن هناك احتلال استيطاني يعمل على سلب الأرض ومحو السكان، بحيث لا يكون لهم أي أثر أو وجود.
وينقل لنا السارد لقاء “يوسف” بأمه في هذا المشهد:
“في تلك اللحظة كانت تتقدم امرأة تهمس وهي آتيه: “يوسف يوسف”!
ـ تلك هي أمنا
توقفت للحظة، ونظرت إليه وكأنها تريد أن تتأكد بحدسها وأمومتها أن من هو أمامها فلذة كبدها “يوسف”، ركزت نظرها على شعره وتفاصيل وجهه، عندها اندفعت نحوه وهي تصيح: “يوسف ابني” ضمته بقوة كأنها تريد أن تختزل فراق خمسين عاما، شعرت بأنها تضم ذلك الطفل الذي غادرته منذ خمسين عاما وهو طفل رضيع، شعرت أن حليب صدرها يتحرك من جديد لطفلها الذي فقدت! أرخت لذلك يدها قليلا، خوفا على جسده، عادت إلى ذهنها في تلك اللحظة صورة الجنود وهم يمنعونها من الوصل إليه” ص121و122، بالتأكيد مشهد مترع بالإنسانية، وما يميزه أنه قدم لنا أما طبيعية، وليست متخيلة، فعندما تحدث السارد عن “حليب صدرها وارتخاء يدها” كان يتحدث وكأنه هو الأم ذاتها، فمثل هذه الدقة في لتفاصيل لا تأتي إلا ممن هو متوحد مع الحدث/ المشهد/ الشخصية.
ونجد أن السارد يركز على نبش الصراع من جديد من خلال الجنود وهم يمنعون أم يوسف من الوصول إليه، ومن خلال تكرار “خمسين عاما” زمن النكبة والهجرة، وبهذا يكون السارد قد أوصل للقارئ طبيعة الصراع في فلسطين بطريقة غير مباشرة، ومن خلال مشهد إنساني، وهنا تكمن أهمية الفكرة وجمالية الشكل الذي قدمت فيه.
الذاكرة الفلسطينية
ما يميز الذاكرة الفلسطينية أنها حية، فما زالت محتفظة بتفاصيل المكان وبما كان من حياة اجتماعية، وهذا يعود إلى (توريث) الأبناء ذاكرة الآباء، يوضح “أحمد” هذا الأمر ل “عمير”: “لكنني أعرف القصة والأحداث، فنحن أبناء من كان ملك هذا المكان، لا نرث الأرض وإنما نرث الأحداث والقصص التي حدثت عليها، نحن منذ خمسين عاما نسمع ولا نرى لكننا نحس أننا سوف نرى ما لم نره في خمسين عاما” ص34، من هنا تبدأ مقاومة الفلسطيني (توريث) ماضيه للأبناء بكل ما فيه من يسر وعسر، من بهاء وقبح، من فرح وشدة، لهذا كان “أحمد” أكثر معرفة ودراية من “عمير” ومدير مركز الشرطة بتفاصيل المكان وما جرى فيه من أحداث.
الفلسطيني والمكان
بين السارد بأكثر من طريقة، مباشرة وغير مباشرة، طبيعة الصراع في فلسطين، وأشار إلى إن الأرض هي الجزء الأهم في الصراع مع العدو، من هنا نجد الفلسطيني يتمسك بالمكان كما يتمسك باسمه، بوجوده، بكيانه، فهو يتعامل معه ليس كشيء جامد، بل ككائن حي، له روح: “وصل بيسان، ابتسم المكان وتجمع كل شيء حوله، شعر بأن بيسان تفتح له يديها وتضمه بقوة، وتقول له أنت من أريد! شعر بأنها تهمس بأذنيه وتقول: هون عليك يا حبيبي،…ابتسم فأنت وحدك لي وأنا لك، أنا الحقيقة؛ بيسان: الأرض والشجر والورد الذي لا يعترف إلا بك” ص16، هذا المشهد يؤكد كيف ينظر الفلسطيني إلى المكان، ورغم أن السارد العليم هو من قدمه لنا، وليس “أحمد”، إلا أنه يحمل الصورة/ الفكرة/ المكانة التي يجدها الفلسطيني في المكان.
رغم الابتعاد عن الوطن (واستحالة) الوصول إليه خاصة لأولئك الذي كبروا في العمر أو توفوا إلا أن المكان يبقى بالنسبة لهم هو من يكمل وجودهم ويؤكد استمراريتهم في الحياة: “فوصية أبي الوحيدة، التي دائما يذكرنا بها، أن يدفن هنا قريبا من الكرمل، في الطيرة التي كثيرا ما رعى عنزاته السوداء فوق هضابها وتغبر بترابها” ص22، وهنا يمكن لأي شخص يجهل علاقة الفلسطيني بالمكان أن يقول: “ما دام الإنسان قد مات، فما يهمه أين يدفن، أليست الأرض واحدة بالنسبة للميت؟ هذا صحيح بالنسبة لكل البشر، لكن للفلسطيني لا، فالأرض/ الوطن هو وجوده وكيانه، ومن واجبه أن يستمر متوحدا/ متماهيا مع المكان الذي هو جزءا منه.
يحدثنا السارد عن “أحمد” وعن هذه التركيبة العجيبة الغريبة وتعلقه بالأرض/ بالمكان وطبيعة تكوينه التي خصه بها الله دون بقية البشر: “بدأ بملامسة التراب، شعر بأن أقرب شيء له هو تراب هذا المكان، بدأ يحدث نفسه: من هذا التراب بالذات أنا خلقت، أشعر أنني حفنة منه، … أنا الآن لا أشعر بالحر عندما تبزغ الشمس، ولا بالبرد عندما تغيب، كل أجهزة جسمي صممت لتكون هنا” ص31، هذه علاقة الفلسطيني بالأرض/ بفلسطين، فترابها/ أرضها هي من كوّنه وأوجده، وما (اختفاء) الشعور بالحر والبرد إلا تأكيدا على الوحدة الجامعة بين الفلسطيني وأرضه/ وطنه.
وما التسمية التي نربط الفلسطيني بمكان ولادته أو ولادة أجداده إلا تأكيدا لهذا الوحدة الجامعة لهما: “في الغربة حيث هناك أناس كثيرون غيرنا ينتمون لأماكن عدة، سوف يصبح ربط اسمي بطيراوي يكفي لتمييزي على الأقل عن عديدين” ص55و56، بهذا الشكل يكون الفلسطيني قد أشار للآخرين وأوضح علاقته بالمكان.
سرد الرواية
الرواية جاءت من خلال السارد العليم، الخارجي، إلا في موضع واحد في صفحة 163، تحدثت فيها “أحمد” بصيغة تداعي ضمير المخاطب، وبين هواجسه تجاه صديقه “عمير” وكيف سيتم التعامل معه في حالة عودته إلى وطنه كمواطن ليس كزائر أو سائح: “وهل من الممكن أنا أن أقبل أن تكون عودتي على حساب وجوده؟! بالطبع، لا” ص163، هنا يطرح السارد فكرته عن تحرير فلسطين وكيف سيتم التعامل مع الآخر، فالفلسطيني لن يكون مجرما ولا متوحشا في تعامله مع من احتل وطنه، وإلا أصبح مثله مجرما/ هذه الرؤية الإنسانية المتقدمة هي من تفصل الفلسطيني عن المحتلين وتميزه عن غيره.
ونلاحظ أن كافة فصول الرواية وعددها 22 فصلا جاءت بغالبيتها في حدود عشر صفحات، إلا الفصل 11 جاء بعشرين صفحة، من صفحة 85 إلى صفحة 105، حيث تناول السارد اللقاء الذي جمع “أحمد” بـ” شقيقه “يوسف” وبزوجة أبيه “تمام”، وهذا يقودنا إلى العقل الباطن للسارد الذي وجد في هذا اللقاء ما يماثل الحلم الفلسطيني بالعودة إلى الوطن ولقاء الأهل، فكان حجم الفصل وما فيه من تفاصيل وما يحمله من مشاعر إنسانية بمثابة دعوة للمتلقي للسعي وراء هذا الحلم وتحقيقه على أرض الواقع.
المصدر : المركز الفلسطيني. للدارسات