الرئيسيةمكتبة الأدب العربي و العالمي

أ.ذ. لطفي منصور “الصَّمْتُ” تَذْييل عَلَى مقالتي “الصَّمْتُ المحزن …”

تَذَكَّرْتُ قَصِيدَةً لِصَديقي وَزَميلي المرحومِ بروفيسور فاروق مواسي أَثْبَتَها في الأعمالِ الكاملة لِشِعْرِهِ في الطَّبْعَتَيْنِ الأولَى والثَّانيةِ.
تَتَكَوَّنُ تِلْكُمُ القَصيدَةُ مِنْ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ لا غَيْرَ وهي “الصَّمْتُ”.
تجدونَها في الطَّبْعَةِ الأُولَى صفحة ٢٢٠ وبَعْدَها صَفْحَتانِ فارِغَتانِ، وَبَعْدَهما القَصيدَةُ التي بَعْدَها إلَى آخِرِ الدِّيوان.
لَعَلَّ القارِئُ يَسْتَغْرِبُ ثُمَّ يَسْأَلُ: هلْ يَجوزُ أنْ تكونَ كَلِمَةٌ واحِدَةٌ قَصِيدَةً قََدَّرَ لها الشَّاعِرُ المرحومُ ثلاثَ صَفَحاتٍ عَلَى الأَقَلِّ.
لَمْ يَشَأِ المرحوم أنْ يَشْرَحَ مُرادَهُ، لِأَنَّهُ كانَ يُخاطِبَ العُقُولَ التي باستطاعَتِها فَهْمَ الْمُرادِ، ولا أَعْرِفْ أنَّهُ استدْرَكَ هذا في مُؤَلَّفاتٍ أُخْرَى.
لَوْ أَمْعَنّا النَّظَرَ في كَلِمَةِ “الصَّمْتْ” لَوَجَدْناها مَشْحونَةً بِعَشَراتِ الْمَعاني، وَكُلُّ مَعْنًى لَهُ عَشَراتُ الْفْروعِ، وَكُلُّ فَرْعٍ لَهُ أَجْزاء، وَهَكَذا نَصٍلُ إلَى مِئاتِ وَآلافِ الْمعاني.
ولِلدَّلالَةِ عَلَى هذا ما جَاءَ في القُرْآنِ الكريم، أنَّ عِيسَى بنَ مَرْيَمَ كَلِمَةُ اللَّهِ ألْقاها إلَى مَرْيَمَ. انظُروا عَظَمَةَ عِيسَى عليْهِ السَّلامُ اُخْتُصِرَتْ بِأَنَّها كَلِمَةٌ. فالْكَلِمَةُ هِيَ الكَوْنُ بِأَكْمَلِهِ. وَكَلِمَةُ “كُنْ” هِيَ الخَليقَةُ بِأَجْمَعِها (كُنْ فَيَكُونُ).
والعَرَبُ تُسَمِّي القصيدَةَ المَشْهورَةَ كالمُعَلَّقاتِ مَثَلًا كَلِمَةً. فقالوا: كَلِمَةَ لَبيدٍ، وَكَلِمَةَ طَرَفَةَ، ويعنونَ بِذَلِكَ المُعَلَّقَتَيْنِ.
وَيَقُولُ عُلَماءُ النُّشُوءِ والارْتِقاءِ أنَّ الإنسانَ مَكثَ مِلْيونَ سَنَةٍ حَتَّى نَطَقَ بالكلمَةِ الأُولَى، بَيْنَما اليَوْمَ، بِقُدْرَةِ الخالِقِ جَلَّ وَعَلا، يستطيعُ مولودٌ أنْ يَنْطِقَ بِالكلامِ بعدَ عِدَّةِ أَشْهُرٍ.
– الصَّمْتُ هُوَ التَّأَمُّلُ بِسُكونٍ وَهدُوءٍ، والتَّأَمُّلُ قراءَةٌ صامِتَةٌ عَميقَةٌ لِلْفَهْمِ التَّامِّ، لا حاجَةَ إلَى النُّطْقِ، أَوْ إلَى تَحْريكِ الشَّفَتَيْنِ أوِ الزَّمْزَمَةِ، أَوِ الصَّفيرِ، أوِ الإنْصاتِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ خارِجٍ عَنِ – التَّأَمُّلِ.
القراءَةُ تَكُونُ بالعينَيْنِ لِلْمَكْتُوبِ أَوْ المرسومِ، كَقِراءَةِ صورَةٍ مَثَلًا، أَوِ الإصغاءِ والإنصاتِ بِالأذُنَيْنِ إلَى الأصواتِ كالموسيقا والغناءِ وتلاوَةِ القُرْآنِ والخُطَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
– الصَّمُتُ هُوَ السُّكوتُ لِلتَّفْكير، وَهْوَ ما يُسَمَّى السُّكونَ المُشْمِسَ، وَهْوَ ما ذَكَرْناهُ في المقالَةِ التي نَحْنُ بِصَدَدِها.
– الصَّمْتُ أوِ السُّكوتُ عَلامَةُ الرِّضا. فَإِذَا استُشيرَتِ امرأَةٌ بِزَواجِها وَسَكَتَتْ فهي راضِيَةٌ، وسُكوتُها يَكُونُ حَياءً.
في الفقْهِ الإسْلامِيِّ إذًا سَكتَ النَّبِيُّ عَنْ طعامٍ وَلَمْ يَأكلْ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَفْعِهِ فجائِزٌ أكْلُهُ، كما حَدَثَ في قِصَّةِ الضَّبِّ.
عَلَّمُونا حِكْمَةً في الصِّغَرِ: إذا كانَ الْكَلامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالسُّكُوتُ مِنْ ذَهَبْ. السُّكوتُ هُنَا لِأجْلِ التَّعَلُّمِ، والاستماعِِ إلَى المُعَلِّمِ والزُّمَلاءِ.
وفِي الحديثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ: “مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآِخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُِتْ”.
– الصَّمْتُ يَكُونُ أحْيانًا كثيرَةً خَيْرًا مِنَ الكَلامِ، إذَا كانَ الْكَلامُ الذي يُجابُ عليْهِ هَذْرًا.
وَقَدْ عَلَّمنا الرَّسولُ عليْهِ الصَّلاةُ والسلامُ حِكْمَةً رائِعَةً هِيَ: مَنِ اسْتُغْضِبَ وَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ جَبانٌ.
وكانَ الرَّسولُ عليْهِ السَّلامُ يَغْضَبُ لِلَّهِ وَرَسولِهِ، فَيُرَى الْغَضَبُ في عَيْنَيْهِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ في القَلْبِ، لا يُطْفِئُها إلّا الْوُضُوءِ.
إنَّ مَعانِي الصَّمْتِ لا تَسْتَوْعِبُها صَفَحاتُ “الفيس”، ولا أُريدُ الإطالَةَ. أخْتَتِمُ هذهِ الكلِمَةَ لِأُبَيِّنَ صِدْقَ صَدٍيقِنا المرحُومِ الشّاعِرِ الفَذِّ فاروق مواسي، الحَيِّ بِشِعْرِهِ وكتاباتِهِ وكُتُبِهِ وَبِأَهْلِهِ، أنَّ الصَّمْتَ كَلِمَةٌ تَسْتَحِقُّ أنْ تكونَ بمعانيها قصيدَةً كامِلَةً بِلا وَزْنٍ ولا قافيَةٍ.
يَقْولُ الطُّغُرائِيُّ في لاميَّةِ العجَم:
وَيا خَبيرًا عَلَى الأَسْرارِ مُطَّلِعًا
اُصْمُتْ فَفِي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ مِنَ الزَّلَلِ
قَدْ هَيَّئُوكَ لِأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ
فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعَى مَعَ الْهَمَلِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق