مقالات
أحببت ذلك أم لم تحبه.. بقلم رياض الصالح
قلت لك من قبل أني محتاج لكثير من الراحة حتى ينطلق ما في صدري من مكنون، لقد جرعتني الحياة كثيراً من الآلام وكأنني مستودع للتخزين والادخار فقط، لا أدري ما الذي تسعى إليه باستخدامي بهذا الشكل، وإلى متى ستظل مهمتي هي المحافظة على تعدد أصناف المشاعر المكبوتة على الرفوف التي لا تنسى بالتقادم، ولا تتلف مع طول المدة، والأدهى من ذلك هو ذلك التمدد اللامتناهي والذي يستوعب كمية الأوجاع وما يتبعها من تأوهات وآثار خفية وظاهرة والتي لا تبرح مكانها الأبدي.
لقد أخبرتك سابقاً يا صديقي أننا كباقي المخلوقات بالنسبة لذلك التوحش الذي لا ينفك عن صفاتنا الحياتية، وكم جادلتني مستنكراً هذا الأمر، مستعظماً هذا الوصف، وحاولت بشتى البراهين أن تثبت لي اختلاف الإنسان بإنسانيته عن وحشية باقي المخلوقات وهمجيتها، لكن لا بد أن تسامحني إن اختلفت معك بالرأي، ولن أذكرك بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، مع علمي المسبق أنه مهما تذكرنا ذلك سوية، فلن أدعي انعدام أثر ذلك الاختلاف، ولو بنسبة بسيطة في قلوبنا، وهذا مثال دقيق لتلك الوحشية التي أقصدها في أصول الطبع مهما حاولنا إخفاءها سوية بوسائل التطبع الإنسانية.
ولست متطرفاً عند خوضي بصراحة في مثل هذه المسألة، ولكنني أحاول تناول المسألة بعقلانية صريحة لا تتحلى بالتعصب العاطفي المفرط، بل أن فيها تبرير كافٍ وتفهم كامل لذلك التناقض الغريب بين الادعاءات التي يتناقلها الناس في معتقداتهم وأحاديثهم وصياغة مبادئهم، وتلك الوحشية الهمجية التي يمارسونها بدون تعقل، كإشارة صريحة لكمية ما تبثه غرائزهم الأصيلة في أفعالهم، والتي يحرصون بعدها ومن أجل تقليص مساحة التهمة بالوحشية، من خلال إعطاء تلك الأفعال مسمياتٍ أخرى لائقةً لبقة، لتبرير ما حصل وتشريع ما سيحصل لاحقاً كلما تكررت تلك الأفعال.
ولا تحاول يا صديقي أن تحصر الأفعال اللاإنسانية إن اتفقنا على الإنسانية أصلاً بفئة معينة أو طبقة معينة، وإنما ستجدها في جميع الفئات والطبقات والأعراق، من الولادة وحتى الممات، ولكن بنسب متفاوتة وطرق مختلفة، وبراءات اختراع لوسائل مستحدثة تناسب كل زمن أو مجموعة على حده، وما تلك الإنسانية التي نحاول إرغام أنفسنا عليها ما هي إلا محاولات مبدئية نثبت فيها تمايزنا البشري، وتفوقنا العقلي، الذي يسعى لمقاومة ما تأصل فينا من دوافع غرائزية تتشابه مع بقية الساكنين على هذه الأرض ، ويريح ضمائرنا المشتتة بين الدوافع والمبادىء، وهذه يا صديقي هي الحياة البشرية، أحببت ذلك أم لم تحبه.
رأيت بالأمس طفلتين تسيران جنباً إلى جنب في الشارع، كانتا في قمة التألق والسعادة وتبادل الضحكات والقهقهة، كم تبسم ثغري حينها وأنا ألمس سعادة عفوية طفولية تخترق ذلك الجو الكئيب الذي يحيط بالكبار من كل ناحية، ثم تساءلت في نفسي عن سر تلك السعادة الطفولية، ابتعدت عن التفسير العلمي الذي يعطي لهرمونات السعادة وجرعاتها المكثفة عند الأطفال تلك الأحقية باحتلال المرتبة الأولى في قائمة الأسباب، وأعطيت لدافع الاستكشاف مرتبة لا بأس بها للتسبب بتلك السعادة، فالأطفال الذين ينشؤون ببيئة أسرية سليمة، يتطلعون للمستقبل بروح تكسوها الآمال والأحلام التي تنتظر ذلك الاستكشاف الممتع كلما تقدم بهم العمر، فهم بين محطات الانتظار يتنقلون، ويستكشفون، إلا أنهم كلما تقدم بهم العمر، وزاد استكشافهم لتلك المحطات، تبدأ صدماتهم النفسية وخيباتهم غير المتوقعة، فإذا ينابيع السعادة تضمحل وتنضب شيئاً فشيئاً، وتتجلى أمامهم حقائق ذلك السراب الذي طالما ظنوه واحاتٍ جميلة كانوا قد تجشموا الصبر على لأواء دروبها ليجدوها قاحلة يملؤها القحط المؤسف أو الملل المقيت.
وتخيلت كيف ستأخذ كليهما طرق ودروب شتى، كلما نضج العقل أكثر في رحلته الزمنية، لتبدأ الأحلام الخاصة تفرق بينهما ولو جمعتها دروب أخرى، ولكن بدون تلك المشاعر والأحاسيس التي كانت تظهر في صورتهما الأولى تلك قبل أعوام كثيرة، وهذه هي الحياة القاسية يا صديقي، أحببت ذلك أم لم تحبه.
# بقلم
# رياض الصالح