مقالات
من أجل العيش ..بقلم رياض الصالح
و في خضم هذه الحياة الشاحبة، وبين سطور تلك الضوضاء المتراصة بعشوائية مقيتة لا تتفق مع يتطلبه الجمال من شروط أو لمسات، يتبقى لي طيف خافت سريع يبرق في ذلك الدماغ كلما هدّ كاهله التعب، وألمّت بخاصرته الأوجاع، وحاصرته سوداوية الأفكار من كل ناحية، إنه الطيف المنبعث من أعماق عينيك يا عزيزتي عندما تتوهج الذكريات لديك، ويهيج الخاطر كلما لاحت لك ملامح ضحكاتي، وبلاهة حركاتي، وعذوبة كلماتي عند كل لقاء.
لا أعرف وقتها من يستحق الثناء على تعديله للمزاج، أو تخفيفه لحدة اللظى الذي تتفنن الحياة في توجيهه علينا عند طهينا بدون حاجة، هل هو أنا لما زرت خاطرك أم هو أنت عندما توهجت عيناك فزارني أطيافها..
دعكِ من ذلك كله، ودعيني أخوض معك في بعض ما أشعر به هذه الأيام من صفاء روحي رقراق عذب، متدفق غزير، متوهج دقيق، إلا أن نبعه لا تزال مجهولة المصدر، غامضة الموقع في المنبع والمصب، لكنها راويةٌ لذلك الظمأ الذي كان قد شقق صحراء نفسي، وتجاعيد وجهي، ومطفئة لتلك الحرائق التي ألهبت خضراء عزائمي، واحمرار ملامح غضبي، وقسوة كلماتي.
لم أذكر لك من قبل يا عزيزتي، أنني صرت أمتلك في بعض الأوقات التي يغلبني فيها غياب عن الواقع، قوة غريبة من الاستبصار الذي لا أستطيع تصديقه، حتى أني صرت أختبر نفسي فجأة إن كان ما تراه عيني حقيقة أم خيال، أطالع مشهداً واقعياً فأغمض عيناي قصداً لأراه بشكل آخر، ظننتُ بداية أنه نوع من الهذيان أو النعاس الذي أغالبه دائماً هو الذي يتلاعب بذهني، لكنه ومع تكراره فقد أدركت أن الوضوح الذي يكتنفني، هو السبب في كل ذلك، إنه الإدراك يا عزيزتي.
صرت أخشى على نفسي من ذلك الوضوح حتى في أحلامي، مشاهد ثلاثية الأبعاد تسري في دماغي بصورة أقرب إلى حقيقة يرسمها العقل وتلونها العاطفة، وليس هذا ما أخشاه، وإنما أخشى ما يتبين لي منها وهي صافية، عينٌ خارقةٌ لتلك الأقنعة البالية التي يرتديها الناس من حولي، وأذن تلتقط أمواجاً صوتية لا تُسمَعُ بالأذن المجردة، وكل هذا ينبؤني بما لا تحب عين مشاهدته، ولا تطرب أذن لسماعه، وكأننا نعيش في عالمٍ مزيف خبيث تعود على ارتداء ما يستر عوراته ويخفي عيوبه التي يخجل من الإفصاح عنها أو التبختر بها.
نحن بنو البشر نفتخر بالشجاعة ثم لا نحتمل تكاليف أن نكون شجعاناً، ونصدح بالأخلاق والإنسانية ثم تمنعنا أنانيتنا وعشقنا لذواتنا أن نعيش بإنسانية إلا إن كانت مجرد غطاء يستر ذلك الجشع المتفاقم في نفوسنا، ونتباهى بالعطاء اللامتناهي لنخفي مقدار الحرص الذي يقيد أيادينا ويسَمِّرُ أقدامنا فلا تخطو لاهثة نحو مصدر صراخ محتاجٍ وارتجاف خائف، نحن يا عزيزتي عار على تلك المفاهيم التي لم نخلقها إلا من أجل الاستتار بها والعيش تحت ظلالها الخادعة.
دعكِ من ذلك أيضاً، فلا أظن أني فاجأتك بمثل هذه الأفكار التي باتت قناعات لدى الكثيرين، ولكنني أريد لفت انتباهك إلى أمر أخر أكثر دقة في توضيح ما توصلت إليه قريحتي وأنا أتفكر في ضرورة تلك الألبسة التي تخفي ما اتفق عليه البشر على أنه عورات، ثم كيف تفتق ذلك الذهن عن أبهى التصاميم وأجود الأقمشة وأرقى الموديلات والصرعات لتكون بديلاً مناسباً لذلك المخفي الذي تتقزز العين من النظر إليه مع أنه موجود لدى الجميع، فلا يخفى عن التصوّر ولا يغيب عن الذهن.
ثم أنهم جميعاً اتفقوا بشكل جماعي غير مباشر على ستر ما وجب إخفاؤه حتى وإن عرفوا بوجوده، فلماذا أعيب أنا ويعيب غيري إذن على تلك الأقنعة التي يتستَّرُ الجميع بها، ويتفننون بتزيينها وزخرفتها والتلاعب فيها بكل ذكاء وحذاقة، ألا يعني هذا بأن جميعهم متفقون سراً ولو اختلفوا جهراً على تلك العورات المتأصلة في الذات البشرية وما فيها من غرائز شائنة ودوافع ضخمة تجعل من الضرورة ارتداء تلك الأقنعة، فلم التفاجؤ إذن ولماذا هذه الكمية من الاستغراب.
عرفت يا عزيزتي، وهذا مما زاد ألمي ألماً من أجل العيش، أن هذا كان من الأسرار البشرية الأولى المتعارف عليها، والتي لا يجرؤ أحد منهم أن يتفوه بها إلا للمقربين جداً، مع أن عيونهم السارحة بما وراء الأقنعة وليست عيناي وحدي تكشف المستور كله، فلا يقرؤها إلا من خبِرَ لغة العيون التي لا تكذب أبداً، فإذا بهم مضطرون للمشاركة في تلك المسرحية الهزلية بإتقان كامل، وما ذلك التمثيل المتقن إلا عبارة عن عملية استعراض لجودة القناع الذي يرتدونه في إخفاء ضخامة الدوافع، ليتباهون فيه بافتخار واعتزاز ينمُّ عن رضى شديد للمشاركة في تلك الحفلة التنكرية التي تشبه رحلة صيدٍ في الأدغال للبحث عن الفرائس، و التي لن يُستَغرَبَ حضورُ أحدٍ فيها غيرَ من أتى بغير عتادٍ أو قناعٍ .. مثلي ومثلك .. يا عزيزتي
# بقلم
# رياض الصالح