الرئيسيةشعر وشعراءمقالات

قراءة نقدية لقصيدة “عندما” للدكتورة روز اليوسف شعبان “

الدكتورة فاطمة أبو واصل إغبارية

عندما!

عندما يصبح الصمتُ ضجيجًا

وقطرةُ الماء رحلةً إلى الموتِ

وكسرةُ الخبزِ أضغاثَ أحلامٍ

تسقط جذوةُ اليقينِ

تتعرّى النفوسُ

تتقاتل عيونُ الكلماتِ

تتبارى

أيُّها أبلغُ في الوصفِ

أيُّها أحدُّ في الطعنِ

تنكمشُ الكلماتُ

تجرُّ أذيالَ حروفِها

تُغمدُ سيوفَها

تُعلنُ هزيمَتَها

وتختفي….

 

عندما يصبح الصمتُ ضجيجًا

يكتسي النهارُ ستائرَ الليلِ

يجمعُ فلولَهُ المتناثرةَ

تنزوي النجومُ خجلًا

ترتجفُ صحائفُ القلوبِ

توهَنُ عزيمةُ النفوسِ

يمزّق ظلمةَ النهارِ

صراخُ الفراخِ

تتلوّى أجنحةُ الطيورِ ألمًا

ترقبُ السماءَ وتنتظرُ….

عندما يصبح الصمتُ ضجيجًا

والهواءُ ممزّقًا

والقمرُ مُخترقًا

تنكّسُ الأشجارُ هاماتِها

ترتسمُ في السماءِ مائدةُ أملٍ

ولوحُ صبّارٍ

وبعضُ ذكرياتٍ

كانت تتوسّدُ حجارةَ الطرقاتِ

وآهاتٌ تمزّقُ ضجيجَ الصمتِ

عندها…..

تجمعُ الإنسانيّةُ فُتاتها

تعجنُهُ بالخيبةِ والانكسارِ

وتمضي….

عندما قرأت  هذه القصيدة الجميلة والمؤلمة في آنٍ معًا، وذلك من خلال تحليل البنية الفنية، الصور الشعرية، المعاني الرمزية، ثم نقف عند الرسائل الوجودية أو الاجتماعية التي تطرحها الشاعرة روز اليوسف شعبان .

 العنوان: “عندما”
  • مدخل تأملي مفتوح: اختيار “عندما” ككلمة افتتاحية وعنوان للقصيدة يخلق حالة من الترقب والانتظار. لا تقدم لنا الشاعرة اليوسف  الحدث مباشرة، بل تجعلنا ننتظره، وتزرع تساؤلًا مفتوحًا في الذهن: عندما… ماذا؟
  • هذه التقنية تمنح النص أفقًا تأويليًا واسعًا، وكأن القصيدة بأكملها هي إجابة على هذا “العندما”.
 المستوى الدلالي:

القصيدة تمثل تصويرًا شعريًا كثيفًا لحالة انهيار الوجود الإنساني في لحظة مفصلية، عندما ينقلب كل شيء على رأسه، وتفقد الأشياء معناها الطبيعي. وهذه  أبرز التحولات:

  • الصمت = ضجيج
  • الماء = رحلة إلى الموت
  • الخبز = أضغاث أحلام

وهذه التحولات تنتمي لما يمكن تسميته بـ”تفكيك المعاني المعتادة”، وهو أسلوب شعري يهدف إلى هدم المعنى اليومي للأشياء لفضح القبح أو الألم المختبئ خلف المألوف.

 “تسقط جذوةُ اليقينِ” → رمز لفقدان الإيمان والثقة.

 “تتقاتل عيونُ الكلماتِ” → استعارة جميلة عن صراع المعنى، وانهيار اللغة نفسها أمام ما لا يمكن وصفه.

 الصور الشعرية والرمزية:

 المفارقة الكبرى:

“عندما يصبح الصمتُ ضجيجًا”

  • هذه المفارقة تفتح باب التأمل الوجودي. فالصمت هنا ليس راحة أو سكونًا، بل هو ضجيج داخلي، صاخب بصمته، قد يكون صراخ القهر أو الصدمة أو الفقد.
 الطبيعة كشاهد مأساوي:

“تنكّسُ الأشجارُ هاماتِها”

“ترتجفُ صحائفُ القلوبِ”

“ترتسمُ في السماءِ مائدةُ أملٍ ولوحُ صبّارٍ”

  • الشاعرة اليوسف  وظفت الطبيعة ككائن حي يتفاعل مع الكارثة. الأشجار تخجل، النجوم تنزوي، القلوب ترتجف، ما يعطي القصيدة طابعًا كونيًا وليس محليًا فقط.
-الرموز المتعددة:
  • مائدة الأمل: أمل ضئيل لكنه موجود، يقاوم وسط العدم.
  • لوح صبّار: رمز للصبر القاسي، للحياة في الجفاف.
  • ذكرياتٌ تتوسّد حجارة الطرقات: مشهد مؤلم للذكريات المهمّشة، المداسة تحت أقدام الحياة القاسية.
 البنية الإيقاعية والأسلوبية:
  • لا تعتمد القصيدة على قافية تقليدية أو وزن واضح، مما يمنحها نَفَسًا نثريًا شعريًا.
  • التكرار (خاصة “عندما يصبح الصمت ضجيجًا”) يعطي القصيدة إيقاعًا داخليًا قويًا، ويؤكد على المركزية الوجودية لهذه اللحظة.
  • الاستخدام الكثيف للأفعال في حالة المضارع (“تتعرّى”، “تتبارى”، “تنزوي”) يمنح النص حيوية، وكأنه يحدث الآن، أو يحدث دائمًا.

 المعاني الوجودية والاجتماعية:

هذه القصيدة يمكن قراءتها على مستويين:

  1. وجودي/فلسفي:
    • تساؤل حول المعنى، حول ما تبقى من إنسانية في عالم مضطرب.
    • لحظة الانهيار التي لا تصمد فيها حتى اللغة أو اليقين.
  2. اجتماعي/سياسي ضمني:
    • “كسرةُ الخبزِ أضغاثَ أحلامٍ” تشير إلى فقر مدقع، إلى جوع واقعي أو مجازي.
    • “الإنسانية تجمع فتاتها وتعجنُهُ بالخيبة والانكسار” → تصوير لما بعد الكارثة، ربما بعد حرب، بعد نكسة، بعد خذلان.
 خاتمة القصيدة:

“وتختفي…”

“وتمضي….”

  • هاتان الكلمتان تحيلان إلى حركة الزمن المستمر رغم الألم.
  • “الاختفاء” و”المضيّ” يعبّران عن استسلام قدري أو تأمل عميق في عبثية ما يحدث، ولكن بدون إصدار حكم قاطع.

 التقييم النقدي العام:

  • القصيدة ناضجة فنيًا ودلاليًا، ومشحونة بصور شعرية مكثفة.
  • اللغة منحوتة بعناية، تمزج بين المجاز والرمز والفكرة.
  • قد تفتقر إلى بناء درامي تصاعدي (أي لا تصعد من حدث صغير إلى ذروة ثم نهاية)، لكنها تُعوّض ذلك عبر تكثيف اللحظة المركزية: لحظة الانهيار الكوني الإنساني.

اترك تعليقاً

إغلاق