مقالات

لحظات مع الأنوار الإلهية * القرآن منهج التحوّل * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”(8-9-10-11)

* لحظات مع الأنوار الإلهية
* القرآن منهج التحوّل
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: ” ذلك الكتاب لا ريب فيه: ماذا لو كان اليقين مفتاح النهضة؟” (8)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد المعنى
حين نطالع مطلع سورة البقرة، نقف أمام إعلان قرآني بالغ الحسم: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (البقرة: 2).
هذه ليست مجرد جملة افتتاحية، بل هي بوابة الوعي ومنطلق الحضارة، فالقرآن يبدأ بالدعوة إلى الثقة الكاملة بالنص، وإلى يقين لا يتزلزل، وكأن الخطوة الأولى نحو النور هي أن تخلع عن قلبك الشك، وأن تدخل عالم الإيمان وأنت مستسلم لحقٍّ لا يتطرق إليه ريب.
* ما معنى أن يكون “لا ريب فيه”؟
ليس المقصود فقط نفي الشك، بل الإعلان أن هذا الكتاب نزل ليكون مرجعًا مطلقًا في عالمٍ يموج بالنسبيات، هو النور حين تختلط الظلمات، وهو البوصلة حين تتعدد الاتجاهات، وهو الخطاب الذي لا يتبدل، حين تتحول المبادئ في أيدي الناس إلى شعارات تتقلب مع مصالحهم.
– اليقين هنا ليس حالة سكون، بل هو محرّك، ينبع من الثقة بالله ومن صدق الوحي، لينتقل بالإنسان من الحيرة إلى الرؤية، ومن التيه إلى الغاية، ومن العبث إلى المعنى.
* اليقين شرط النهضة
في كل مشروع نهضوي، تبدأ الفكرة بفردٍ آمن بمبدأ، وثق برسالة، واعتقد بإمكان التغيير، واليقين هو ما يحوّل هذه الفكرة من مجرد أمنية إلى واقع.
– إن غياب اليقين يعني ضبابية في الغاية، وركونًا للواقع، واستسلامًا للهزيمة الداخلية حتى لو تغيّرت الظروف.
– في التاريخ، لم تُصنع حضارة دون إيمان عميق بمبدأ ما، والقرآن حين يقول ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يجعل من اليقين بداية البناء، ومن الثقة بالمصدر أول الطريق.
* اليقين في زمن الحيرة
نعيش في عالم يدّعي الحرية، لكنه يزرع فينا الشك تجاه كل ثوابتنا، يُروَّج للريبة وكأنها فضيلة، وللهوية وكأنها عبء، وللدين وكأنه قيد.
– في هذا السياق، يعود القرآن ليعلن أن الخروج من هذا العبث يبدأ من إعادة ترتيب الأولويات: بأن يكون القرآن محور الحياة، مرجع القيم، أساس التفكير، لا بوصفه كتابًا للتلاوة فحسب، بل بوصفه منهجًا للنهضة.
* عندما يصبح اليقين طاقة فاعلة
اليقين ليس تحجّرًا، بل هو العمق الذي يعطيك الثبات وأنت تنفتح على العالم، ويقينك بالقرآن لا يعني رفض الواقع، بل يعني أن تملك معيارًا تحاكم به الواقع، وأن لا تذوب فيه.
– إن المؤمن الواثق لا تجرّه الرياح، ولا تُطفئه الشكوك، لأنه ينهل من منبع لا يتبدل، واليقين الذي يقذفه الله في قلب عبد، كفيل أن يغيّر حياة، وأن يُنشئ أمة، وأن يخط مسارًا للتاريخ.
* فماذا لو؟
ماذا لو كان اليقين المفتاح المنسي للنهضة؟
ماذا لو عدنا إلى القرآن نقرأه لا بعيون العادة، بل بقلوب التلقي الأول؟
ماذا لو فتحنا هذا الكتاب لا لنختمه في شهر، بل لنجعل من آياته أبوابًا للحياة، ومن هدايته بوصلة للمجتمع؟
هل يمكن أن تكون نقطة الانطلاق هي استعادة الثقة بأن هذا الكتاب فعلاً: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (البقرة: 2)؟
* خاتمة: حين يبدأ التغيير من القلب
ليس غريبًا أن تكون أول صفة للقرآن في سورة البقرة هي ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، لأن من لا يتيقن من دليله لن يهتدي، ومن لا يطمئن إلى مصدره لن يثبت في الطريق.
– فالنهضة لا تبدأ من المال ولا من السلاح، بل من اليقين: من قلبٍ آمن بأنّ هذا الكتاب لا ريب فيه، فاندفع يعمل، ويفكّر، ويُصلح، ويُربّي، ويُقيم ميزان العدل على ضوء النور الذي فيه.
– إننا لا نفتقر إلى الأفكار، بل نفتقر إلى الإيمان بها، ولا نفتقر إلى النصوص، بل نفتقر إلى من يتلقّاها بيقين منشرح.
فلنبدأ من سؤال بسيطٍ لكنه جوهري:
هل نحن واثقون حقًا أن هذا القرآن هو “الكتاب الذي لا ريب فيه”؟
إن كانت الإجابة: نعم.. فلنُثبِت ذلك لا بقولنا فقط، بل بمشروع نهضة يبدأ من القلب ويعبُر إلى الحياة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.

* عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “إن مع العسر يسرًا: قراءة مختلفة في قانون الابتلاء ”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2027)
* 25 . محرّم .1447 هـ
* الأحد . 20.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

****************

* لحظات مع الأنوار الإلهية
* يُسرٌ مضاعف
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “إن مع العسر يسرًا: قراءة مختلفة في قانون الابتلاء” (9)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: حين يكون القرآن مدرسة للطمأنينة
كثيرًا ما تُتلى آية ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 5)، دون أن نمنحها حقّها من التدبر، نمرّ عليها كمن يطمئن قلبه بكلمات حفظها، لكنه لم يذق طعمها الحقيقي بعد. ولكن، ماذا لو قرأنا هذه الآية كقانون إلهي، لا كجملة عابرة؟ ماذا لو كانت هذه الآية مدرسة في صناعة الصبر، وبناء المعنى، وتهذيب الروح؟ تعالوا بنا نناقشها من خلال عدة نقاط
أولًا: الابتلاء ليس عقوبة.. بل خطابُ اصطفاء
في العقل المادي الذي يحاكم الحياة بمقاييس الربح والخسارة، يُنظر إلى العسر كدليل على الغضب الإلهي، أو ضعف الحظ، أو نتيجة ذنب ما، لكن القرآن يقدّم منطقًا مختلفًا: العسر ليس عقوبة، بل اختبار ترفعه يد الله لتصوغك من جديد. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155)، فالابتلاء في القرآن هو أداة بناء، لا معول هدم، هو بوابة العروج لا هاوية السقوط.
* ثانيًا: دقة التعبير.. “مع” لا “بعد”
الآية لم تقل: “فإن بعد العسر يسرًا”، بل قالت: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 5)، وشتّان ما بين “مع” وَ “بعد”.
فـَ “بعد” تعني أن العسر ينتهي، ثم يبدأ اليسر.
أما “مع”، فتعني أن اليسر يرافق العسر، يسير معه كتوأم خفيّ، لا يظهر إلا لمن أدام النظر.
إنها دعوة لأن نعيد قراءة واقعنا: فحتى في أشد ساعات الألم، هناك أنفاس لطف تتسلل لا تشعر بها، ربما تكون في إنسان صادق، أو لحظة خشوع، أو حلم يُبعث رغم كل شيء.
* ثالثًا: التكرار ليس عبثًا.. بل تأكيد لقانون
الآيتان ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ و﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 5-6) تكرّرتا، وليس في القرآن تكرار بلا مغزى،
فقد روى العلماء أن العُسر جاء مُعرّفًا بـ دِ “أل”، أما اليُسر فجاء نكِرَة، ما يدلّ على أنّ العسر واحد، أما اليسر فمتعدّد، أي أن مع كل عسرٍ، هناك يُسران على الأقل.
إنها معادلة إيمانية: لا يتكافأ العسر مع اليسر، بل يُغلبه، ويُغمره، ويذوبه في لطف الله.
* رابعًا: بين فقه الابتلاء وفقه التغيير
الابتلاء ليس دعوة للاستكانة، بل هو جزء من سُنن التمكين.
ولذا فإن الذي يفهم الآية جيدًا لا يكتفي بالصبر السلبي، بل يبني من العسر طاقة حركة.
فكما خرج يوسف من الجب إلى الوزارة، وكما انبعث موسى من التيه برسالة، وكما نهض محمد ﷺ من حصار شعب بني هاشم إلى فتح مكة، كذلك يصنع المؤمن من عسره رسالة، ومن محنته مشروعًا، ومن دموعه أملًا يمشي به إلى الناس.
* خامسًا: هل العسر دائم؟ بين لحظة الألم وأفق الحكمة
حين تضيق بك الحياة، يبدو لك العسر وكأنه لن ينقضي، لكن الحقيقة أن العسر لحظة، وأن اليسر مشروع ممتد.
الابتلاء يُقاس بالساعة، أما ما يبنيه فيك من حكمة وصبر ويقين فهو حياة بأكملها.
فكم من إنسانٍ قاده مرضٌ إلى يقظة روحية، أو خسارة إلى فهمٍ أعمق، أو دمعة إلى باب توبة.
إن العسر ليس نهاية، بل هو فصل من فصول التربية الإلهية، تتخلله نفحات تسري في عروق الضعف لتبعث القوة من جديد.
* خاتمة: مدرسة الثقة بالله
إذا أردت أن تختبر عمق إيمانك، فانظر كيف تقرأ العسر:
هل تراه حفرة مُظلمة؟ أم سُلّمًا خفيًا إلى نضجك؟
هل ترى فيه هزيمة؟ أم فرصة للانبعاث من رمادِك؟
في حضرة هذه الآية، نحن لا نُعلَّم كيف نتحمّل فقط، بل كيف نبصر النور في النفق، ونوقن أن الرحمة تسبق الشقاء، وأن الله لم يخلق عسرًا إلا وقد رتّب له مخرجًا.
﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (الطلاق: 7)، لكن قبله، ومعه، وطوال الطريق، ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6).. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامهم: حوار الغيب مع الإنسان”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2028)
* 26 . محرّم .1447 هـ
* الأثنين . 21.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

************
* لحظات مع الأنوار الإلهية
* نورُ الغيب
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامهم: حوارُ الغيب مع الإنسان” (10)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: حين يتكلم الغيب بلغة الوحي
في مشهد مهيب من مشاهد سورة آل عمران، يعلو صوت الوحي بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 44). إنها ليست مجرد جملة سردية عن واقعة قديمة، بل خطابٌ من الله لنبيه الكريم ﷺ، يُقرّ فيه أن معرفته بتلك التفاصيل ليست عن طريق الحضور، بل عن طريق الوحي، هنا يتجلّى بوضوحٍ ذاك الحوار العميق بين الغيب والإنسان، بين العقل والمصدر الإلهي، بين حدود البشر ومطلق العليم.
* الغيب ليس خرافة.. بل دليلٌ على النور المتجاوز
في عالم طغت عليه المادية، يُحاصر الإنسان بأسئلة الوجود واليقين والحقيقة، يريد أن يلمس كل شيء، أن يرى ويقيس ويحاكم بعينه وعقله.
لكنّ القرآن يُعيد ترتيب البوصلة، ويُخبر الإنسان أنه لا يمكن أن يكون حاضرًا في كل شيء، ولا أن يحيط بكل شيء علمًا، وأن مصدر يقينه لا يكون دائمًا من “العيان”، بل من الإيمان.
– يقول تعالى: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ (آل عمران: 44)، أي أن هناك عوالم لا يدركها الحس، لكنها تُبنى في وجدان المؤمن عبر الثقة بالوحي.
وما بين الغيب والوحي، تتأسس الثقة الكبرى: ثقةُ النبي ﷺ بربه، وثقتُنا بنبينا، وثقتنا في أنّ ما وراء الحجاب ليس فراغًا، بل نورًا.
* إلقاء الأقلام: عندما يُقرِّر الغيب مصير القلوب
المشهد نفسه يحمل صورة عجيبة: مجموعة من الكهنة يتسابقون لكفالة مريم، لكن كيف يختارون من يكفلها؟
يلقون أقلامهم! طريقة عفوية ظاهرًا، لكنها كانت مرآةً لاختيار إلهي دقيق.
– لقد تَجاوزَ الأمرُ حدودَ التصويت أو التفاوض، وصار “إلقاء الأقلام” وسيلةً لاختيار تُحرّكُه يد الله الخفية، ويُظهر فيه الله من اختاره لحكمة عليا.. فما الذي نقرأه هنا؟
أنه حتى القرعة العابرة، قد تكون في عمقها قدرًا مرسومًا، وأن التدبير الإلهي يعمل في الظلال، لا بسطوة الجبروت، بل بلُطف التسيير.
* الرسالة للنبي ﷺ: لست وحدك في الطريق
حين يُخاطَب النبي ﷺ بقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾، فهو تذكير أن ما جاءك من علم، لم تأتِ به من ذاتك، بل هو من ربك.
– وكأنّ الخطاب يقول له: سرْ في طريقك يا محمد، فالمعرفة التي بين يديك ليست بشرية، بل ربانية.
وهذا يعني لنا نحن أتباعه: أن هذا القرآن ليس من عنده، بل من عند الله، وأن ما نبنيه من يقينٍ على هذا الكتاب هو رسوخٌ في أرضٍ ثابتة، لا أهواء بشر.
* مريم… والقلم… والغيب الذي يصنع التاريخ
وما أعجب أن تكون “مريم” ـ تلك الطاهرة النقية ـ هي محور المشهد!
ففي هذا الإلقاء العفوي للأقلام، كانت بذور القدر تُبذر، لتُصبح مريم بعد ذلك رمزًا عالميًا للعفة والعبودية والطهارة، وأمًا لعيسى عليه السلام، الكلمة التي ألقاها الله.
– كم من لحظة ظنّ الناس أنها بسيطة، فإذا بها نقطة تحوُّل تصنع مجرى التاريخ.
* خاتمة: حين يُعلّمنا الغيب كيف نؤمن
“وما كنتَ لديهم”… لكنها ليست نقيصة.
بل هي شهادة على أن أعظم المعارف قد تأتيك من الله، دون أن تحضر أو ترى.
هي دعوة لكل مؤمن أن يثق بما جاءه من الوحي، وأن لا يجعل عينه ميزان الحق، بل يجعل قلبه منفتحًا على نور الله.
في عالم الشكوك، نحن لا نبحث عن معجزات بصرية، بل عن قلبٍ يُصدّق الغيب ويطمئن به.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3)… هم أول من بشّرهم الله بالهداية… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “فاذكروني أذكركم: العلاقة المقدسة بين الذِّكر والحضور”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2029)
* 27 . محرّم .1447 هـ
* الثلاثاء . 22.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
************

* لحظات مع الأنوار الإلهية
* ذكرٌ حيّْ
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “فاذكروني أذكركم: العلاقة المقدسة بين الذِّكر والحضور” (11)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

في عالمٍ تتقاذفه الأصوات، وتزدحم فيه الهموم، ينسحب كثير من الناس إلى زوايا العُزلة أو الضياع، بحثًا عن معنى أو سكينة، ولكنّ القرآن يوجّهنا إلى مفتاحٍ بسيطٍ عميق: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152)، دعوةٌ ربانية لنسج حبلٍ موصولٍ بين العبد وربه، حبلٌ لا ينقطع إلا بإعراضنا نحن.
* الذكر.. ليس مجرد ترداد
الذكر في القرآن لا يُقصد به فقط تحريك اللسان بالتسبيح، وإن كان هذا جليلًا، بل هو استحضار لله في الوعي والوجدان، حضورٌ دائم في القرار والسلوك، تذكير للنفس بمن هي، ومَن ربها، ولماذا خُلقت، فالذاكر الحقّ لا ينسى نفسه في متاهات الهوى، ولا ينسى ربه في مواطن الفتنة والضلال.
– الذكر هو يقظة الروح، هو الجسر الذي لا يُبنى بالحجارة، بل بالخضوع، بالحب، بالإنابة. وكلما ذَكرتَ الله بقلب حاضر، ذكرَك الله بحضورٍ إلهيٍّ يملأ كيانك طمأنينة ونورًا.
* علاقة متبادلة.. ولكن من يتفضل على من؟
﴿فاذكروني أذكركم﴾… ظاهرها تبادُل، لكن حقيقتها تجلٍ للرحمة، فالعبد إذا ذكر الله فهو المحتاج، الضعيف، الساعي، أما الله إذا ذكر عبده، فهو الغنيّ الذي يتفضل، يفيض، يُعلي المقام، يُنزل السكينة، يُحيي القلب، يُبشّر بالرضوان.
– في الحديث القدسيّ: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم”.
تأمّل هذا الفضل.. أنت تهمس، وهو يُعلن، أنت تذكر، وهو يُشرّف، أيّ رحمة هذه؟ وأيّ كرم هذا؟
* الذكر الحيّ.. أعمق من لحظة
إننا حين نربط الذكر باللحظة العابرة فقط – كأن نقول: “سبحان الله” بعد صلاة أو في فراغ – فإننا نحجّمه. ولكنّ الذكر في عمقه هو أسلوب حياة، أن تذكر الله وأنت تقرّر، وأنت تعمل، وأنت تغضّ بصرك، وأنت تُعطي أو تمتنع، وأنت في الزحام، وأنت على الوسادة… تلك هي الحياة الذاكرة.
– فالمطلوب ليس مجرد ذكر الله وقت الحاجة، بل أن يصبح ذَكَرُ الله بوصلةَ وجودك، حينها تُصبح مُراقبة الله أعظمَ حاجزٍ أمام السقوط، وأقوى حافزٍ نحو السموّ.
* الذكر.. منبع القوة وسرّ الثبات
حين واجه النبي ﷺ وأصحابه أعظم التحديات، كانت الأوامر تأتي بالذكر: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون﴾ (الأنفال: 45)،
فالثبات لا يكون بالسلاح وحده، بل بقلوب موصولة، تعلّمت أن الذكر يُطمئن، ويُقوّي، ويُرسّخ المعنى.
ففي زمانٍ تتهاوى فيه الثوابت، يبقى الذكر سياجًا للهوية، وجدارًا للطمأنينة، وموردًا لا ينضب من السكينة.
* خاتمة: الذكر حضور.. لا غياب
حين تذكر الله، فأنت لا تهرب من الواقع، بل تُنقّي رؤيتك له، الذكر لا يُقصيك عن الحياة، بل يُعيدك إليها بنقاء ووعيٍ ورضا.
هو إعلانُ انتماء، وتجدّد عهد، واعترافٌ بأنك عبد، في حضرة ربٍّ لا يغيب، ﴿فاذكروني أذكركم﴾ نداءٌ سماويٌّ لا يُشبهه نداء. فمن لا يجيب، فاته الحضور، وخسره الذكر، وغابت عنه السكينة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان المقالة الأخيرة صبيحة الغد في هذه السلسلة إن شاء الله هو: “في بطون أمّهاتكم: تأمل في الهشاشة الكونية للإنسان”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2030)
* 28 . محرّم .1447 هـ
* الأربعاء . 23.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

اترك تعليقاً

إغلاق