مكتبة الأدب العربي و العالمي

هذيان / بقلم رياض الصالح

..تأخرت عليك هذه المرة، أعرف ذلك، ولكنك لا تعرف أني كنت أعاني من وعكة صحية باردة، وهزال جسدي لزج، لا يتلاءم مع طبيعة الخلايا الصلبة التي تملأ كياني، ولا أطلب منك أن تعذرني، فأنا أعلم بأنك ارتحت من متابعة ترهاتي، وتكهنت بانتهاء حكاياتي، ولكني سأظل ابتلاءك اللاإرادي يا عزيزي، فأنا أعلم مقدار فضولك في اختلاس النظر إلى كلماتي ولو من خلف ستار السطور التي أشبعها طلاءً.
ما كنت أعلم مسبقاً أن جسدي حينما يتملّكُهُ المرض، يؤثّر على دماغي بطريقة ما، فهل تصدق أن عقلي وكأنه أخذ إجازة إجبارية عن حضور طاولة الثرثرة الجماعية التي تعقد يومياً، تساءلت كثيراً إن كان المرض يعالجني حقيقة، فقد أمضيت وقتاً قلما يراودني شعوره، وتأكدت أنه يساكنني في هذا الرأس كثير من الشخصيات التي قد لا تتوافق فيما بينها على الأغلب، هي التي تثير الجلبة الفوضوية في أنحائي وأجزائي، علمت ذلك، عندما صفعتها تلك الوعكة الصحية، فدخلت هي في غيبوبتها العلاجية، وصحوت وقتها أنا وحدي، فتخيل كيف سيكون الأمر عندما أساكن جوّايَ وحدي، يا لها من حياة.
يا سيدي، يكفي أن أحدثك عن عودة الذاكرة وكيف كان أثرها النفسي عليّ عندما رجعت، في البداية كان الأمر غريباً، وكأنني أعيش حلماً سماوياً يكاد يكون حقيقة، لكن حواسي لا تملك اليقين الكافي بأن ما تستشعره مما يدور حولي ينتسب إلى الحقيقة المطلقة، وكأنني أختلط بالظلال أو بالنظائر، أو أخلطُ بين المحسوس و اللامحسوس، فهل تفهمني.
لقد كنت أتمتع وقتها بقدرة خارقة في الحكم على الأشياء، لأني سمحت لنفسي بالخروج من دائرة اليقين، إلى ذلك الفراغ الفضائي الواسع المسمى بالشك، طالما أني معذور بالمرض، ومتأثر بهلوسته، فلن أضحي بأية خسائر اجتماعية من الممكن أن تحاكمني على أفكاري أو هلوساتي بعد ذلك.
تملكتني آنذاك فكرة غريبة، بعد اختفاء الواقع اليقيني من أمامي وارتسام ظلال كل ما أراه على جدران جمجمتي، بأن كل ما يحياه إنسان العصر الحداثي اليوم إنما هو محض هراء أوهام تتصارع على بقاء وهمي لرغبات وهمية لا تزيده إلا شحوباً كنت ألحظه في تلك الظلال التي أراها.
تعمقت كثيراً في القلم الرصاصي الذي يلوّن ظلال ذلك الهراء، ولا أخفيك أني حاولت مجتهداً أن أتفهم الظروف التي تدفعنا نحن البشر لنعيش بتلك السذاجة الفارهة والتي تجعلنا نُقَدّرَ أو نطمح أو نهرولَ متزلجين أو سابحين في تلك السطوح التافهة لمجرد أنها براقة لامعة، دون أدنى اعتبارٍ لما بعد تلك السطحية من هاويات، تساءلت وأنا في صحوتي الفردية تلك، عن مستوى الإدراك العقلي الذي لا يظهر أمامي في تلك الظلال، إن كان بسبب تعصبي المفرط ضد تلك السطحية، والذي قد لا يوافقني عليه كثير من العقلاء والمثقفين، أم أنها اتسعت لتشمل الأغلب حتى جرتهم بحبال إغرائها، وقادت زمامهم بسلاسة طريقها إلى مستواها، فما عادوا يعرفون ولا يدركون معنى ذلك الإدراك.
أي صدمة يحتاجها الإنسان لتوقفه عن ذلك التردي المتسارع، وأي صفعة تلزمه من أجل أن يلتفت إلى الناحية الأخرى، وهل لا بد لنا من صدمات أو صفعات مؤلمة حتى نستيقظ من تلك الغفوة، أليس هنالك حلٌّ جذريٌّ دون ألم، لقد تسلمت تلك السطحية التافهة مقاليد كل شيء، فما عادت الأهداف تتجه نحو رفع المستويات، بل صارت تنحو إلى تخفيف الوطء، والنزول بالمستوى في كل الأمور لمجاراة تلك التفاهة العارمة الجارفة للجميع في مجراها الذي تخطُّهُ بين الجبال من الأموال نحو الفناء والانحدار ، وليس نحو النشوء والارتقاء.
سامحني يا صديقي، فلا زلت أهذي، طالما أن بعض من يساكنني في عقلي لا زال يعاني من آثار المرض، لكني تأكدت وأنا أتجول مع ذاتي المنفردة ، أني لا زلت أكنِّ لك المشاعر من نوع خاص، فأنا لا زلت أذكرك كلما أردت التنفيس عما يجول في خاطري، فليتك لا تكون وهماً آخر من أوهامي، و مجرد زيف إضافي أزيده في قائمة معارفي الزائفين، لقد أطلقت على ما يجمعنا من علاقة مسمىً خاصاً، فلعلها صداقة برجوازية، لمعت في ذهني وأنا أحاول فهم ضرورة وجود النخبة وأهميتها في المجتمعات، ثم صدقني أنها كذلك، فهي تتعالى عن مفهوم الصداقة الشعبوية، ولا ترضى بالفئة السطحية، لا زلت أضفي لها من جهتي بعض السلوكيات الراقية، والذوقيات المميزة، رغبة مني بالارتقاء ولو على الصعيد الشخصي بيني وبينك، لسماءٍ مترفعةٍ عن الدنايا المريضة، نسبح في ذلك الهدوء دون ضجيج الثورات الطامعة أو الحروب الفاشلة، و لا الصراخ المعترض بلا طائل، نراقب الظلال برويّة فقط، بعيونٍ مستبصرةٍ زرقاء، مستنيرة ثاقبة كالشهب ، لتبدو لنا واضحةً كلُّ ما تخفي من الخبايا، رغم أنها تصغر في أعيننا، كلما ازددنا علواً و ارتقينا أكثر.

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق